رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبادة «المحمول»

على صفحات الفيسبوك لاحظت منشورًا مكررًا بشكل أقرب إلى الحمى والطفح الجلدى.. يتأسى هذا المنشور المكرر على غلو سعر النسخة الأخيرة من هاتف «آيفون» ويجرى حسبة سخيفة يقول بمقتضاها إنه يمكن للشخص أن يسافر خارج البلاد للنزهة وشراء جهاز آيفون جديد والعودة مرة أخرى وإن التكلفة فى كل الحالات ستكون أرخص من شراء جهاز آيفون ١٤ من مصر!!

ظننت فى البداية أن هذا المنشور المكرر دعاية لمدينة دبى السياحية المزدهرة، خاصة مع انتشار أنواع الدعاية غير المباشرة عبر الفيسبوك من خلال أشخاص يوصفون بالمؤثرين.. لكننى الحقيقة صادفت نسخًا أخرى من المنشور تجرى الحسبة بخصوص دول أخرى يمكن أن يزورها الإنسان ويعود منها ظافرًا منتصرًا وفى صحبته «آيفون ١٤» الذى لا تحلو الحياة إلا به كما هو واضح من تلك المنشورات التى تبكى على ارتفاع سعره وتطرح الحل تلو الآخر للفوز به فى التو واللحظة وفى نفس شهر إصداره كما يليق بالمليونيرات والمليارديرات وأحفاد الباشوات.. وهم كما نعرف جميعًا يمثلون الأغلبية الساحقة من رواد فيسبوك فى مصر ومن متداولى هذه المنشورات بالذات!!

وبغض النظر عن أن المنشور السخيف يتداول معلومات كاذبة عن أسعار الطيران والإقامة فى المدن التى يقترحها وأنه يفعل ذلك حتى يبدو اقتراحه منطقيًا وحتى نتأسى جميعًا معه على سوء الحال الذى جعل السفر والإقامة فى فندق فى بلد خارجى أرخص تكلفة من شراء آيفون مهرب ويباع بشكل غير شرعى فى مصر، شأنه شأن المخدرات والخمور المهربة، وينطبق عليه المثل القائل «الغاوى ينقط بطاقيته».. بغض النظر عن الأرقام الخاصة بتكلفة رحلة شراء «آيفون ١٤» غير صحيحة، فاسمحوا لى أن أسأل بمنتهى التهذيب.. ما هذه السخافة؟ ما هذه النطاعة؟ ما هذا التهافت؟ ما هذه العبادة للاستهلاك دون أى مقومات حقيقية من عمل أو إنتاج أو إضافة للبشرية؟ ما هذا الجهل بالعالم، سواء عبر الجهل بأوضاع الركود والتضخم فى عشرات الدول أو عبر الجهل بعادات الشعوب المحترمة فى الاستهلاك؟.. هل يظن أصحاب هذه المنشورات أن المواطن الغربى يتهافت على شراء آخر نسخة من آيفون؟ هل يظنون أن ستيف جوبز نفسه «مطور آيفون الرئيسى» كان سيهتم أن يقتنى آخر نسخة من جهازه؟ هل يظنون أن بيل جيتس يشغل نفسه بمثل هذا الأمر؟ ومثله مارك زوكربيرج الذى لا يكاد يغير الـ«تى شيرت» الذى يرتديه رغم أنه ملياردير.. هل قرأوا عن ملياردير مثل وارن بافيت يشترى ملابسه من المتاجر الرخيصة حيث «كل شىء بخمسة دولارات» وينصح الناس بهذا؟

إننى أذكر جيدًا جدًا أننى فى بداية الألفية كنت فى زيارة لسكن مشترك يقيم فيه بعض الطلبة الأجانب الذين يدرسون فى مصر ولسبب ما اضطررت للرد على الهاتف الأرضى.. فإذا بأب وأم يسألان عن ابنة لهما تقيم فى السكن ولم تكن موجودة.. قلت لهما إن ابنتهما اشترت خط محمول جديدًا وإنه يمكننى أن أخبرهما بالرقم ليتصلا بها عليه.. فقال لى الأب.. لا يوجد ما يستدعى الحديث على المحمول وهذا اتصال للاطمئنان فقط وممكن إجراؤه فى وقت آخر.. وشكرنى الرجل وأغلق الخط.. كان هذا موقفًا تعلمت منه أن المحمول لا يجب أن يكون فى يد الجميع، كما كانت تقول لنا الإعلانات فى ذلك الوقت كى تستخرج ما فى جيوبنا، وأن الحديث على المحمول هو للطوارئ فقط، وأنه ليس هناك أى كارثة إذا لم يملك الإنسان تليفونًا محمولًا، حيث إنه ليس من أركان الدين الخمسة وليس منصوصًا عليه فى كتب السنة! لكن المصريين للأسف انتقلت لهم عادات الاستهلاك والمظهرية من البلاد الشقيقة التى عملوا فيها.. وأنفقوا باليد اليسرى ما تعبوا فى جمعه باليد اليمنى.. وتواطأ عليهم مسئولون فاسدون مع رجال أعمال نهمين كى يجعلوا الاستهلاك دينًا جديدًا للمصريين.. وأصبحنا نرى مواطنًا عاديًا لا هو أمير ولا وزير يحمل جهازى محمول أو ثلاثة من النوع الفاخر دون أى مبرر منطقى.. ثم رأينا بيع المحمول بالقسط والفوائد كى يشبع المواطن نهمه للفشخرة الكاذبة والعنطزة الفارغة بدلًا من أن يشترى كتابًا يقرؤه أو يدخر مبلغًا ينفعه ويضيفه لحصيلة الادخار فى البلاد، وأذكر أننى قرأت فى مجلة المصور فى عام ٢٠٠٥ تحقيقًا صحفيًا يقول إن التكلفة السنوية للدروس الخصوصية وفواتير المحمول هى سبعة مليارات جنيه سنويًا! وهو مبلغ كبير جدًا بمعايير تلك الفترة، يكفى أن نعرف أن مشروع توشكى وقتها تكلف ستة مليارات جنيه فقط بأسعار ذلك الزمان.. لنعلم كم كلفتنا المظهرية والعنطزة والعادات الفارغة وما زالت تكلفنا حتى الآن.. لقد نسيت فى غمرة حماسى أن أقول إن ابنة ستيف جوبز مخترع الآيفون نفسه قد نشرت رسمًا تسخر فيه من تكرار إصدار نسخ آيفون كل عام وتقول إنها تشبه نفسها فى كل شىء.. لكن المواطن الفيسبوكى الذى هو مزيج من «الكحيت» و«عزيز بك الأليت» لا يرى هذا.. ويلوم الدولة لأنها لا تدعم آخر نسخة من آيفون ١٤، كما تدعم رغيف الخبز.. أليست هذه نطاعة ما بعدها نطاعة؟ وسخافة ما بعدها سخافة؟ وعبودية للاستهلاك ما بعدها عبودية؟ كفى عبثًا من فضلكم ولا بد من أن يفيق المواطن الواهم الذى يريد أن يحمل الآخرين مسئولية فشله ويلوم الدولة لأنها لا توفر له آيفون ١٤ بسعر مناسب!!