رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخلاق الكبار.. وأخلاق الصغار

على قناة النهار الفضائية المصرية ظهر العالم المصري الكبير د. فاروق الباز مطلع هذا الأسبوع متحدثًا عن بحث علمي مصري يشرف عليه، وتقوم فكرته على محاولة البحث عن وسيلة آمنة وعملية لتجنب اصطدام السفن الفضائية والأقمار الصناعية بالمخلفات الصلبة الموجودة في الفضاء، تلك التي قد تنتج عنها آثار كارثية تتسبب في خسائر مادية هائلة، وربما تنتهي إلى تداعيات علمية خطيرة حال اصطدام تلك المخلفات بأقمار لها أغراض بحثية مثلًا.
لن أدخل في تفاصيل البحث ولا حتى ما تم التوصل إليه، فما يعنيني هنا هو موقف دكتور فاروق الباز حيث حرص لأكثر من مرة خلال الحوار أن يوضح أن دوره ليس أكثر من الإشراف - بحكم خبرته الواسعة- على جهد بحثي كبير يبذله اثنان من الباحثين المصريين الأكفاء، أصحاب الجهد الحقيقي في المشروع البحثي. ولم يترك الباز الميكروفون قبل أن يذكر اسميهما، وهما دكتور شريف مصطفى ودكتور أحمد جابر.
وباحترافية شديدة التقط مقدم البرنامج د. محمد الباز، الخيط من العالم الجليل فسأله في نهاية الحوار عن تقييمه لفكرة الباحثين، وهنا أجاب فاروق الباز بقوله: "إنهما عالمان متميزان جدًا جدًا، ويستحقان الفخر، وما كتباه في البحث أمر شديد العظمة، فالدكتور جابر تلميذ قديم لي وحصل على الدكتوراه من ألمانيا وكذلك زميله د. شريف، بمعنى أنني أشارك عالمين أحبهما وأقدّر علمهما وفكرهما، فأنا في غاية السعادة إذ شاركتهما عملًا يجيدانه ويفهمانه جيدًا ويستوعبان تفاصيله.
هل لاحظتم استخدام الرجل لكلمة "أشارك" وليس أشرف أو أوّجه أو أراجع؟
هكذا تحدث العالم الكبير فاروق الباز بكل تواضع عن دوره البحثي، ثم أفسح الشاشة للعالمين الجادين ليعبرا عن رأييهما ورؤيتيهما وما أنجزاه في البحث، وهذا الموقف هو أبرز تعبير عن أخلاق العلماء الحقيقيين والقادة المتواضعين، أو بالأحرى المتحققين الذين يضيفون لتلاميذهم فلا يسطون على منجزاتهم ولا يغارون من تحقق مرؤوسيهم ونجاحهم، بل إنهم يكونون أول من يدعم ويساند ويدافع إذا تطلب الأمر منهم دفاعًا.
ولا أنسى أبدًا موقفًا لي مع العالم الجليل الراحل د. مصطفى كمال طلبة، خبير البيئة المصري العالمي، إذ طلبت منه موعدًا لحوار فتفضل الرجل بتحديد موعد للقاء، غير أنني تأخرت عن موعدي عشر دقائق وحين وصلت مكتبه استقبلني الرجل بترحاب شديد، ولمّا هممت ببدء الحوار اعتذر د. طلبة، بكل أدب معللًا هذا بعدم التزامي بالحضور في الموعد المحدد.
ولم أجهد نفسي بالبحث عن مبرر للتأخير، بل اعترفت للرجل بالخطأ وألحقته بطلب تحديد موعد جديد، فبادرني بتحديد الموعد في اليوم التالي مباشرة، وفي الغد ذهبت لمكتب الرجل، وكنت في غاية الحرص على الوصول قبل موعدي بعشر دقائق، كنوع من التكفير عن خطأي السابق.
وحين جاء الموعد المحدد أجرينا الحوار، وعندما انتهينا قال لي: أظنك لن تخلف موعدًا بعد اليوم، وهكذا أحاول جاهدًا وفاءً بوعدي للرجل.
أذكر موقفًا آخر لفنان قدير هو النجم خالد الصاوي، إذ حددت معه موعدًا وذهبت إليه في منزله فلم أجده، وركبت سيارتي مغادرًا، فإذا بهاتفي يلح في الطلب وكان المتصل هو الفنان خالد الصاوي يسألني هل وصلت بالفعل لمنزله؟ وهل استقبلني مدير أعماله؟ فأبلغته أنني وصلت ولم أجد أحدًا فاضطررت للمغادرة.
وإذا بالرجل يعتذر اعتذارًا أخجلني، وأبلغني أنه عائد من الإسكندرية وحين خشي من ألا يدرك الموعد المحدد كلف مدير أعماله باستقبالي وضيافتي حتى يصل، وأمام إلحاح النجم استجبت لطلبه بالعودة فوجدت مدير أعماله قد وصل معتذرًا، ومالبث أن وصل الصاوي وأجرينا حوارًا من أمتع حواراتي التي أجريتها مع فنانين.
موقف آخر لا أنساه كان بطله سمو الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن سابقًا، إذ تحصّلت على موعد مهني معه وتم تحديد الموعد في الإسكندرية، استأذنت رؤسائي وراجعت أدواتي ومضيت إلى هناك حيث الموعد.
استقبلتني مراسم الأمير وبدأت الحوار في موعده واسترسل الأمير في إجاباته، وبعد نحو 22 دقيقة تعطل جهاز التسجيل، التزم الرجل الصمت وأنا غارق في عرق شديد من شدة الخجل وصعوبة الموقف، وكان سموه قد تناول كتابًا وأخذ يتصفحه حتى لا يزيد من ارتباكي، ولكنه كان يرسل لي بابتسامة هادئة كلما لمح توتري وأنا في محاولاتي اليائسة لاسترضاء الجهاز المعطل.
وأومأ الأمير بهدوء لبعض رجاله فانصرف أحدهم وعاد بعد دقائق - مرت علّي كساعات- وهو يحمل جهاز تسجيل فاستخدمته وتمكنت من استكمال الحوار، وبعد أن فرغت من مهمتي وأنا ألملم أوراقي مغادرًا، كررت الاعتذار عن هذا الخطأ غير المقصود مبررًا بأنني أستخدم هذا الجهاز لأول مرة. إذ أقدمت على استعارته ليليق بلقاء طرفه سمو الأمير الحسن.
فإذا بالرجل يوجهني بحكمة مازلت متمسكًا بها إلى اليوم قائلًا: حافظ على قديمك فجديدك لا يدوم.
قالها الأمير مبتسمًا وبنبرة أبوية ولكنها كانت مكسبي الذي خرجت به من اللقاء.
تلك نماذج لبعض مما رصدت من سلوكيات الكبار وأراها تعبر عنهم وعن سموهم ورقي أخلاقهم، أما أخلاق الصغار التي نوّهت عنها في عنوان المقال فأرى أنها وأنهم لا يستحقون الذكر ولا يستأهلون أن نشغل بالنا بتذكرهم ولا بتذكر مواقفهم، فالانشغال بالصغار لن يزيد المرء إلا وجعًا وقد يودي بنا لأن نكون منهم، عافانا الله وإياكم من هذا المصير.