رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهدات فى بلاد العم سام 2.. هنا «أتلانتا».. المدينة الهاربة من قلب إفريقيا!

أتلانتا
أتلانتا

للوهلة الأولى ستشعر بحجم التباين الشديد بين واشنطن العاصمة بمبانيها الفاخرة وألوانها الزاهية، وبين مدينة أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا فى الجنوب الشرقى التى غرست عوامل الرطوبة والزمن مخالبها فيها، فالمدينة باهتة أمام ما اعتادت عليه العين فى الأيام السابقة، وجودة الطرق أيضًا مختلفة تمامًا.. شعرت بالضيق فى اليوم الأول، وكأننى انتقلت من النور إلى الظلمة ومن دولة متقدمة جدًا إلى أخرى من الدول الفقيرة التى تعيش على المعونات.

تعلمت فى أتلانتا أن الانطباع الأول ليس حقيقيًا، وأن على الإنسان أن يصبر ليختبر الأشياء والأماكن وحتى البشر أولًا، قبل أن يصدر الأحكام.. كانت الحرارة شديدة مقارنة بالعاصمة واشنطن، حتى إن زوار المدينة يطلقون عليها «هوتلانتا» وليس أتلانتا، بسبب طقسها الذى يشبه صعيد مصر من حيث الحرارة المرتفعة وندرة نسمات الهواء التى تخفف لهيب أشعة الشمس.

طائر الفينيق

فى تقاطع الشارع رقم ١٠ مع شارع شجرة الخوخ التى تتفوق جورجيا كأكبر منتج لها داخل الولايات المتحدة، عشت ٦ أيام من الدهشة والتعمق فى المجتمع الأمريكى، مع أصناف وألوان مختلفة من البشر. فى هذه الولاية التى تعتز بأنها نهضت من الرماد بعد تدميرها وحرق معظم مبانيها خلال الحرب الأهلية الأمريكية، ولهذا تتخذ من طائر الفينيق رمزًا لها.

غالبية سكان أتلانتا من أصول إفريقية يتحدثون بصوت عالٍ جدًا، ويستخدمون أجسادهم فى الحديث مع كثير من الألفاظ النابية فى الشوارع، وعلى الرغم من أن تدخين الماريجوانا غير مقنن فى هذه المنطقة، إلا أن رائحتها تخترق الحوائط وتصل إليك فى كل مكان، وهى المنطقة الوحيدة التى تلقيت فيها إنذارًا أمنيًا على الهاتف باختطاف طفل، ورأيت فيها مطاردة حية من رجال البوليس الذين تجمعوا حول الفندق لأحد المجرمين الذى يبدو من عدد السيارات وأفراد الشرطة أنه عنصر خطير.

كان اليوم الأول مرهقًا فى البحث عن طعام حلال، أو طعام ليس على الطريقة الأمريكية غير المستساغة بالنسبة لذوقى، فقد فشلت فى السير على نهج الأستاذ أنيس منصور الذى كان يجرب الأطعمة المحلية فى زياراته حول العالم. وفى مكان غير بعيد وجدنا مطعمًا يقدم الطعام الفيتنامى، وهنا تملكتنى الحماسة لتناول الطعام عند الفيتناميين الذين كانوا أشرس الشعوب فى مواجهة آلة الحرب الأمريكية وأطاحوا بالرئيس نيكسون.

سرعان ما غمرتنى السعادة بعد العثور على مطعم يقدم اللحوم الحمراء واسمه «حلال جايز» على مسيرة ٥ دقائق من الفندق، وكنت أزوره يوميًا، وتعرفت فيه على شخص صينى وفتاة هندية لا علاقة لهما بالإسلام، لكنهما يفضلان تناول اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية.

قليل من النوم

جربت لأول مرة فى حياتى أن أستخدم غسالة الملابس، وأن أضع أغراضى فى هذه الآلة مع المسحوق وأتركها قرابة ٤٥ دقيقة حتى تزيل غبار السفر وعرق الطريق والتنقلات الكثيرة التى لم تتوقف يومًا، حتى فى العطلات الرسمية، بسبب رغبتى فى استكشاف أكبر قدر من الشوارع والمناطق والناس، وطوال الرحلة التى امتدت ٣ أسابيع فى الأراضى الأمريكية لم أحظ بأكثر من ٦ ساعات نوم فى كل ليلة.

فى أتلانتا تحول الزملاء فى البرنامج الذين كانوا مجرد معارف فى واشنطن المحطة الأولى، إلى أصدقاء، نخطط معًا للخروج والاستكشاف، وتناول الطعام، ويتولى كل واحد مهمة مختلفة، فواحد يبحث عن أفضل الأماكن التى يمكن زيارتها، وآخر يتولى الأمور اللوجستية مثل طلب سيارة «أوبر»، وآخر يجلب الطعام للبقية، وبنهاية المدة التى عشناها معًا فى عاصمة جورجيا، تحولنا إلى ما يشبه الأسرة الصغيرة وكأننا نعرف بعضنا منذ الطفولة.

تحدى التدخين

جربت لأول مرة فى حياتى أن أقلل التدخين إلى الربع، وأنا المعتاد على إشعال ٤٠ سيجارة يوميًا، كان إنجازًا كبيرًا دفعنى إليه تحد قررته الزميلة اللبنانية بشاير ماضى، التى لم تعجبها ولا مرة، طريقتى والزميل الجزائرى محمد لطفى فى التواصل، فالرجل لا يعرف اللهجة المصرية، وأنا كذلك يمكننى الحديث مع شخص صينى ربما أفهم نصف كلامه، لكن الدارجة الجزائرية تشبه خليطًا من اللغات واللهجات والأصوات، لا أفقه منها كلمة واحدة، فقررنا فى البداية أن نتواصل بطريقة «مستر بين»، ونستخدم تعبيرات الوجه وبعض الأصوات عديمة المعنى.

كان تحدى التدخين أصعب شىء واجهته طوال الرحلة بعد شعور الجوع المتواصل وعدم الرضا عن أى طعام فى الأراضى الأمريكية، فى البداية كان عبارة عن توفير سيجارتين من العلبة التى تحوى ٢٠ سيجارة، لكننى نجحت فى محطتنا التالية فى الوصول لمعدل ١٠ سجائر فقط فى اليوم، وهو أمر غيَّر نظرتى عن التدخين، واعتقادى السابق بأنه من المستحيل أن أتوقف عنه.

أول بداية التصالح بينى وبين الولاية الجنوبية كان فى يوم مشمس، توجهنا خلاله إلى متنزه البحيرتين التوأم، الذى يعد مركزًا ضخمًا فى الريف لاستقبال الأطفال ذوى الإعاقة والأطفال المصابين بالسرطان والأيتام أو الذين يقضى والداهم عقوبة السجن، حيث تتم استضافتهم فى أنشطة ترفيهية لمدة أسبوع، بالتعاون مع عشرات الشركاء من المنظمات غير الحكومية المنتشرة فى البلاد.

كل غرف المعيشة فى المتنزه مجهزة بشكل كامل لاستقبال الأشخاص ذوى الإعاقة الذين يستخدمون الكرسى المدولب دون الحاجة إلى مساعدة، وكذلك غرفة الطعام الكبيرة وغرفة الأنشطة الرياضية والترفيهية، حتى حمام السباحة تم تصميمه بشكل يتيح لمستخدم الكرسى النزول والخروج من الماء دون مساعدة، فى أجواء خلابة وغلاف طبيعى شديد الصفاء، وهو ما دفعنى للتفكير فى المنزل الذى أقيم به، ومكان عملى، وغالبية الأماكن التى أتردد عليها فى القاهرة، والتى لا يمكن لشخص يستخدم الكرسى أن يصل إليها.

قطعة من الجنة

هنا فى المخيم أو المتنزه تشعر بأنك لمست قطعة من الجنة لا تريد مغادرتها، ويمر الوقت سريعًا بعكس ليالى أتلانتا المليئة بالمشردين الذين يتسكعون أمام الفندق أو السكارى الخارجين للتو من الحانات الكثيرة المنتشرة بالمنطقة أو المنتشين بمخدر الماريجوانا رغم عدم قانونية استنشاقه فى الولاية.

يضم المتنزه أيضًا حديقة كبيرة لتربية الماشية والخيول، ومزرعة تعتمد على السماد العضوى دون استخدام أى مواد كيميائية.. رحنا نلتقط الصور مع كل شىء تقع عليه أعيننا، ونساعد بعضنا فى التقاط الصور التذكارية، فهذه فراشة مالت على شجرة صغيرة تمتص رحيقها، وهذا سرب من النحل يشكل معًا لوحة بديعة فى سماء المتنزه، والأشجار منتصبة فى شكل منتظم كأنها لوحة لفريدا كالو، حيث تتداخل المساحات الخضراء مع الأشجار العالية والسماء الصافية المزينة بعدد غير قليل من السحب شديدة البياض.

حين وقعت عينى على العجل المعجزة، اندفعت نحوه بسلوك طفولى اعتدته فى زمن بعيد فى بلدتى الصغيرة القابعة تحت جبل أبنوب، والتقطت معه الصور ورحت أشرح لأصدقائى أفضل طريقة لملاطفته والتعامل معه، وتحولت من زائر يتلقى المعلومات إلى خبير فى شئون العجول الصغيرة.

مورجان فريمان

عدنا إلى الفندق بعد يوم حافل بالسعادة، تصالحت فيه، كما قلت، مع جورجيا، وقررت التعايش مع اختلافها الشديد والعاصمة واشنطن، لكن اليوم لم يخل من مغامرة أخرى، فالفندق الذى عدنا إليه ليس المقصود رغم أنه فى شارع «بيتش ترى» الذى يمتد بطول أتلانتا، وكان علينا العودة من جديد لنحو ١٩ كيلومترًا، مع سائق يشبه الممثل مورجان فريمان، وحين داعبته بهذه المعلومة نظر إلىَّ قائلًا: نعم أعرف، كانت أمى تحبه كثيرًا!

فى اليوم التالى كنا على موعد مع اجتماع افتراضى عبر «الزووم» بسبب إصابة بعض الزملاء بفيروس كورونا. جرى الاجتماع مع مفوضية تكافؤ الفرص على مستوى الولاية بشكل ساده التوتر والقلق على صحة الزملاء المصابين.. ويتمحور عمل المفوضية فى الحرص على عدم تعرض الأشخاص ذوى الإعاقة للتمييز فى العمل أو السكن بناءً على إعاقتهم، ويتم تطبيق عقوبات صارمة على مرتكبى هذا الانتهاك الخطير تبدأ بغرامة مالية تقدر بآلاف الدولارات، ثم تتضاعف فى حال تكرارها.

غير بعيد من الفندق، وخلال عودتنا من المطعم الفيتنامى الذى لم يعجبنى طعامه من فواكه البحر، اصطدمنا بمنزل الكاتبة الراحلة مارجريت ميتشل، الذى كتبت فيه الجزء الأكبر من روايتها الشهيرة والوحيدة «ذهب مع الريح»، لكن المكان كان مغلقًا أمام الزوار فى وقت مرورنا.. تخيلت ميتشل بعد كسر ساقها وشعورها بالملل الذى دفعها لكتابة هذه الرواية التى خلدت اسمها بين أدباء العالم، وحصلت بسببها على جائزة بوليترز الأدبية، وكيف خلقت الإعاقة المؤقتة لهذه السيدة أجنحة تطير بها فى عالم الأدب.

سيناتور شرق أوسطى

كان الرفاق ينامون مبكرًا أو ينشغل كل شخص بهمومه فى المساء، ما دفعنى للتجول ليلًا مع الصديق الجزائرى أو بمفردى فى أحيان أخرى، وفى هذه الجولات الليلية صادفت شابًا يعمل فى الفندق، تبادلنا التحية مرات عديدة، جلس معى يدخن سيجارة وذكر والدته المقعدة التى تستخدم كرسيًا مدولبًا ولا تحصل على أى دعم من الحكومة، وكيف أنه يعمل فى النهار مع فرقة موسيقية ويضطر للعمل الإضافى بالفندق ليوفر بعض المال يرسله إلى أمه فى ولاية فيرجينيا.

فكرت فى مواساته وتشجيعه على مواصلة تضحياته فى سبيل والدته العجوز، لكننى تذكرت عمتى «سعدية» التى كانت تساعد الجميع، وحتى أولئك الذين لا تعرفهم ولا تراهم، فقد ضبطتها فى أكثر من مرة تدعو للمسافرين جوًا كلما رأت طائرة، أن يصلوا لبيوتهم وأهلهم سالمين، فطلبت من روبرت الذى كنت أناديه روبيرتو أن يكتب احتياجات والدته فى ورقة ويرفق فيها رقم هاتفه للتواصل، ووعدته أن أحاول مساعدته.

وخلال اجتماع مع المدير التنفيذى للجنة الأمريكية لتكافؤ الفرص على المستوى الفيدرالى تعرفنا أكثر على طبيعة القوانين التى تحمى الأشخاص ذوى الإعاقة من التمييز، والعقوبات المقررة على مرتكبيه، والفرص المتاحة، وكيف أن النضال من أجل الحقوق المدنية فى الستينيات والسبعينيات أتى بثماره أخيرًا.. انتظرت حتى ينتهى المتحدث وينتهى أصدقائى من طرح الأسئلة، ثم شكرت الرجل على ما قدمه من معلومات وناولته ورقة مطالب «أم روبرتو» ورجوته أن ينظر فى الأمر.

اندهش الرجل واندهش الحضور، ومال علىَّ أحد الأصدقاء يمازحنى: عليك أن تستقر هنا فى جورجيا وتترشح للكونجرس وتتفرغ للدفاع عن الناس وتتحدث عن مشاكلهم ومطالبهم. وكان جوابى مرحًا بقدر اقتراحه، فقلت له: فور عودتى إلى مصر، سأبيع أنثى الماعز والدجاجتين والميكروويف وأصفى كل أعمالى بالشرق الأوسط وأعود لأترشح فى الكونجرس، وربما أسكن البيت الأبيض!

انطلقنا بعد هذا الاجتماع إلى معهد جورجيا للتكنولوجيا، وهو واحد من أرقى المؤسسات التعليمية فى مجالات تكنولوجيا علوم الفضاء وغيرها من المجالات، وبه إدارة خاصة للتعامل مع الطلبة ذوى الإعاقة وتيسير حصولهم على التعليم والخبرات التى تؤهلهم لسوق العمل، دون تمييز.

يتعلم الطلاب هنا ويحصلون على الفرص فى أرقى الجامعات، ويتم تنفيذ برامج دراسية تتناسب مع الإعاقات، خصوصًا المتعلقة بمستوى الذكاء والتفكير، لكن لا يمكن لطالب أن يتخرج قبل دراسة كل المقررات، ومن الأخبار السارة التى حصلنا عليها خلال العرض الذى قدمته مضيفتنا، أن وزارة الدفاع الأمريكية طلبت من الجامعة ترشيح خريجين من ذوى الإعاقة للعمل فى الوزارة.

مع هذه الأخبار المحفزة، والتعرف على التسهيلات اللوجستية التى تقدمها المؤسسات التعليمية فى الولايات المتحدة، والوعى المجتمعى بضرورة دمج وتأهيل ومناصرة الأشخاص ذوى الإعاقة، تذكرت صديقى رامز عباس وهو أصم ناطق، لم يجد ربع هذه التسهيلات ليكمل تعليمه فى كلية الحقوق، والذى يتمتع، رغم معاناته اليومية مع أعباء الحياة والعمل والتمكين الغائب، بثقافة واسعة، حتى إن الناشطين فى مجال الإعاقة يلقبونه بـ«مصنع الأفكار».

كانت الحرارة تزداد يومًا بعد يوم، تآكلت قدماى من كثرة المشى والاستكشاف، فيما كان عزائى هو دخول الـ«أكواريوم» الذى تسير فى دهاليزه كأنك فى أعماق المحيط، بين أصناف مختلفة من الأسماك والكائنات البحرية.. وكان أكثر ما جذب انتباهى وحاز إعجابى أسرة الحيتان التى تقضى وقتها فى الرقص والاستعراض، لكن صدمتنى موظفة فى المكان حين عرفتنى على الأم وابنها الذكر وابنتيها، قادنى الفضول لمعرفة مكان الوالد الذى اتضح أنه فى محمية أخرى، فتغيرت نظرتى تجاه هذه الأسرة البهلوانية التى تمرح وترقص فى غياب الوالد!

لدىّ حلم

وفى يوم سبت فارغ من البرامج والاجتماعات انتقلت مع الصديقين بشاير، ولطفى، إلى «مركز الملك» الذى يضم قبر القائد التاريخى لحركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج، والبيانو الخاص به، وفى الخلفية صوت كينج يصرخ فى خطاب مسجل: «لدىّ حلم بأنه فى يوم ما على تلال جورجيا الحمراء سيستطيع أبناء العبيد السابقون الجلوس مع أبناء أسياد العبيد السابقين معًا على منضدة الإخاء. لدىّ حلم بأنه فى يوم ما سيعيش أطفالى الأربعة بين أمة لا يحكم فيها على الفرد من لون بشرته، إنما مما تحويه شخصيته».

كانت الزيارة إلى هذا الضريح ملهمة، والعزف على بيانو كينج واستحضار روحه، من أجمل الخبرات التى تعرضت لها خلال الرحلة الشاقة والمرهقة والتى لم أتناول فيها طعامًا شهيًا، أو أحصل على عدد كافٍ من ساعات النوم، وكان ختامها بعاصفة شديدة ضربت الولاية وكادت تزيحنى من أمام الفندق حين خرجت ولم أكن أعلم بقدومها، وكأن المدينة الساحرة تعاقبنى على عدم ارتياحى لها فى يومى الأول.. سافرت متجهًا إلى الغرب مع تحذير من بعض الأصدقاء بأن وجهتنا التالية شديدة العنصرية تجاه الأجانب، وهو ما سأحكى عنه فى الحلقات التالية.