رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدين ليس مظهرًا وتسلطًا.. بل هو دعوة لمكارم الأخلاق

تربينا ونشأنا وتعلمنا أن نتحلى بالأخلاق الكريمة وأن ديننا الإسلامى يدعونا لها، تربينا ونشأنا وتعلمنا أن نحترم الكبير وأن نعطف على الصغير وأن نصلى ونصوم ونكبر فى يوم عرفة، وأن نؤدى العمرة لأنها راحة للنفس وتقرب إلى الله وأن نحج حينما نستطيع ذلك، تربينا ونشأنا وتعلمنا على أن نخرج الزكاة للمحتاجين قدر استطاعتنا وأن نقرأ سورة الكهف يوم الخميس.

تربينا ونشأنا وتعلمنا أن نقول بسم الله الرحمن الرحيم قبل أن نفعل أى شىء وأن نحمد الله على نعمه التى لا تعد ولا تحصى، وأن نقول إن شاء الله حينما ننوى الذهاب لموعد وأن نعمل خاتمة حينما نكون فى حاجة إلى الدعاء لعزيز علينا أو أن نكون فى حالة من الحزن أو الضيق، تربينا ونشأنا وتعلمنا أن نقدم أمنا على من عداها من البشر وأن نُكرم أبانا على دعمه لنا وأن نشكره حينما يشترى لنا شيئًا جديدًا.

نشأنا وسط أسرنا فى البيوت المصرية على تعاليم الدين السمح وعلى أنه المودة والرحمة والخير، وأحببنا ديننا الإسلامى ولم نرَ منه إلا أنه مصدر خير وأنه يدعونا لفعل الخير، نشأت وسط أسرة مسلمة وسطية، فأمى كانت تصلى وتصوم وتمارس الرياضة واختارت لى التعليم فى مدارس فرنسية لأتعلم اللغات، وشجعتنى على تعلم الباليه والبيانو وممارسة الرياضة وخاصة السباحة فحصلت منذ سن العاشرة على بطولات فيها على مستوى الجمهورية، لأنها تبنى الجسم السليم، ورأيت أمى تقرأ الصحف والكتب والمجلات، إذ إنها مثقفة بطبيعتها، نشأت على حب الثقافة والقراءة باللغتين العربية والفرنسية.

ونشأت على حب الوطن والانتماء له وأن مصر من أجمل البلاد، وأن نساءها يتميزن بالأناقة وهن فى الشارع، كما كنت أراهن يخرجن بمظهر جميل وأنيق ولهن ملامح تميزهن عن غيرهن من النساء لأنهن بنات الفراعنة، لهذا يخرجن من بيوتهن فى أبهى زينة وأجمل طلة، نشأت ورأيت أمى غير محجبة وهى تصلى وتصوم وتقرأ القرآن كثيرًا ظهر يوم الجمعة، وتشاهد صلاة الجمعة فى التليفزيون وبعدها تشاهد عالم الحيوان. نشأت ورأيت أبى يدعمنى كفتاة ويشجعنى على التفوق، وفى الصيف يعلمنى أن أتولى إدارة البيت ويوجهنى إلى أن أتعلم إعداد الطعام ويشجعنى على الذهاب لمشاهدة السينما يوم الجمعة لأشاهد فيلمًا جديدًا فى حفلة السينما من ٣ لـ٦ بعد الذهاب للنادى صباحًا ثم الغداء فى الخارج.

كما كان أبى يحرص على تشجيعى على التفوق فى المدرسة وفى الرياضة والانتظام فى دروس الباليه أيضًا، وحينما أتممت الـ١٤ عامًا شجعنى على قراءة جزء «عم» من القرآن الكريم وكافأنى بإعطائى ٣٠ جنيهًا مصريًا حتى أحرص على قراءة القرآن الكريم، وهكذا كان يكافئنى كلما انتهيت من جزء فأصبحت قراءة القرآن الكريم عادة أحبها وتعودت عليها منذ الصغر، وظل القرآن يرافقنى حتى يومنا هذا وأضعه بجوار سريرى وأحمله معى أثناء السفر.

وتربيت فى بيت أبى على احترام نفسى واحترام الغير والتفوق حيث كان طبيبًا ونابغًا وكان يجتهد فى مجاله حتى أصبح رائدًا فى الطب الطبيعى الذى أسسه فى مصر، وأنشأ أول قسم له فى كلية طب قصر العينى، لم يكن أبى بلحية طويلة أو يرتدى جلبابًا قصيرًا أو يتشدد ضد البنات، بل كان يرحب بصديقاتى من المدرسة ويرى ضرورة تفوقى فى الدراسة وحرصى على أن أكون الأولى فى فصلى بمدرستى الفرنسية، كما حرص أبى على إلحاقى بمدرسة الليسيه الفرنسية المختلطة، التى كانت بها ملاعب للرياضات المختلفة، لأنه كان متقدمًا فى فكره، يرى أن البنت لا تقل عن الولد فى التفوق الدراسى وأن الاختلاط مع زملائى سيجهزنى للحياة الطبيعية والتعامل الطبيعى مع الشباب بعد ذلك فى الجامعة وما بعدها.

كان أبى متقدمًا عن عصره وكان دائمًا يقول إن تفوقى مهم لأننى ذكية ولأننى ابنته التى يفتخر بها وبعقلها ونبوغها، ولم أسمع أبى يومًا فى صغرى وحتى وفاته يتحدث عن البنات أو السيدات بالسوء أو أنهن أقل من الرجال أو يفرق بينى وبين الرجال فى شىء. كنا أسرة مسلمة، لكننا لم نسمع يومًا كلمة سيئة عن المسيحيين أو تفرقة بينهم وبين المسلمين فى مصر، وكانت أقرب صديقتين إلى قلبى إحداهما مسيحية، وهى سلوى فهيم ولا تزال صديقتى المقربة لقلبى حتى يومنا هذا، وكانت صديقتى الثانية المقربة لقلبى مسلمة وتتمتع بهدوء وهى نهى البشلاوى، وكانت كل السيدات والأمهات المصريات غير محجبات والفنانات المصريات غير محجبات، وكان من الطبيعى أن تجلس الأسر يوم الخميس من أول كل شهر للاستمتاع بحفل أم كلثوم الذى يذاع على الهواء بالإذاعة المصرية وأن يُقبل المصريون على الذهاب إلى حفلاتها بكامل أناقتهم، وتظل الصور للحفلات شاهدًا على أن نساء مصر أنيقات وغير محجبات وأنهن فى منتهى الاحترام والوقار، وأن الموضة تظهر فى باريس والقاهرة فى نفس الوقت.. فما الذى يحدث الآن؟

إننا نرى الآن تسلطًا سافرًا ضد النساء من دعاة متشددين وفتاوى تطرف تنتشر فى كل مكان فى مواقع التواصل الاجتماعى وفى مواقع الإنترنت وفى الفضائيات، وتفسيرات متطرفة تُنسب للدين، وسلوكيات أبعد ما تكون عن الإسلام، وهجومًا على النساء وتسلطًا ممنهجًا من دعاة جدد لإرغامهن على ارتداء الحجاب الوهابى وبث أفكار متطرفة بين الشباب تحت ستار دينى لكن الدين منها براء، وفى تقديرى أن ما نراه الآن هو تحول عن جوهر الإسلام وغاياته وأساسه الذى جاء فى الأحاديث النبوية الشريفة، فقد جاء فى الحديث النبوى الشريف الذى رواه أبوهريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

مما يعنى أن الإسلام قد جاء ليزرع أخلاقًا جديدة لأنه دين سلام وعدل ومحبة وصدق وبر بالوالدين وعطف على الصغير وصلة الرحم واحترام المرأة وتكريمها، فعندما جاء الإسلام أعطى للمرأة حقوقًا كثيرة فشرّع لها الميراث وحقها فى طلب الطلاق والعمل المشروع وحقها فى الحياة الكريمة كالرجل تمامًا وغيرها من الأشياء التى حرمت منها من قبل، ففى عصور الجاهلية كان يتم وأد البنات وحرمانهن حتى من حق الحياة، بينما أكد الإسلام أن الأخلاق هى من أهم القيم التى يجب توافرها فى المجتمع، والتى تساعد على بنائه وتطويره وهى الأساس فى استمرارية الأمم.

إنما هناك منذ بضع سنوات بعض الدعاة الذين أخذوا ينشرون التطرف وقدموا الدين الإسلامى بطريقة خاطئة، مما جعل الناس تنفر منه وتعتقد أنه ينادى بالوحشية والهمجية والتطرف، خير الأمثلة على أن الأخلاق هى أساس فى الدين الإسلامى هو الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث كان آية فى الأخلاق وكان خير أسوة لكل من حوله، وكل من تعاملوا معه شهدوا له بالصدق والأمانة والخير، وفى الشعر أيضًا تغنى أهم الشعراء بالأخلاق باعتبارها أساس الاستقرار وبناء المجتمعات على أسس سليمة، حيث قال شاعرنا الكبير الخالد أحمد شوقى: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا».

وانطلاقًا من هذا فإن ما يدعو إليه بعض الدعاة الجدد مثل مبروك عطية وعبدالله رشدى وغيرهما من تشدد وتقليل من شأن المرأة، وكل الدعوات المتخلفة مع النساء وفقدان الأخلاق الكريمة فى التعامل معها والعنف ضدها والتشدد والسعى الحالى لاستلاب حقوقها وحريتها وكرامتها- كل هذا لا يمت للدين وسماحته بصلة، وأن استباحة حياتها حتى وصلت لحد القتل فى الشارع أمام جامعة بالمنصورة مثلما حدث للطالبة الجميلة «نيرة أشرف» من اغتيال على يد مجرم وحشى لأنها رفضت أن تتزوجه، كل هذا مرفوض وبعيد عن الدين الإسلامى وناتج عن دعوات متطرفة لاستباحة النساء والبنات. وهذه جريمة نكراء أدانها كل المجتمع المصرى وأصدر فيها القاضى الجليل بهاء الدين المرى حكمًا ناجزًا بالإعدام. ويجب أن تحرص الدولة على ألا تتكرر، وإننا مطالبون كمجتمع وكأسر مصرية بالدعوة للأخلاق الكريمة لأنها هى أساس وجوهر الإسلام، وهى التى ستؤدى لاستقرار المجتمع وتطوره، ولا بد أن نتكاتف جميعًا نحن أصحاب العقول المستنيرة للقضاء على كل الدعوات المتخلفة والأفكار الدخيلة على الإسلام، وكل المحاولات الحالية التى تحاول التقليل من شأن المرأة، أو تحاول النيل من حقوقها أو تحاول التسلط عليها من خلال استخدام الدين، والدين منها برىء.