رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تدريبات للحياة

تطلب المدربة أن أخفض رأسى فى الماء، أن يكون ذقنى مُلاصقًا لصدرى، ينخفض رأسى، ومن خلف النظارة أرى أرضية «حوض السباحة»، طبقات من الماء وانعكاسات للضوء تصنع قوس قزح، ونجومًا.. حركات اهتزازية لطيفة، أتمنى لو أظل هناك بعيدًا. أود البقاء هناك.. الاحتماء.. النسيان، لكن قلبى يدق.. ويسرى فى عروقى مخدر خفيف يجعلنى أشعر بألم.. لكنه ليس حادًّا.. نحن كائنات برية، لكننا فى الأصل كائنات مائية، يوجد الجنين فى وسط سائل تسعة أشهر.. يطفو، ويتحرك.. لكن نفسى يبدأ فى الانسحاب، أحتاج للتنفس، فأرفع رأسى وأعود للعالم.. فوق الأرض، نتنفس بشكل تلقائى.. لا نحتاج لجهد، بل إننا ننسى كثيرًا أننا نتنفس أصلًا، لكن فى السباحة عليك تنظيم تنفسك، وأن تتعرف على قدرتك.. سعتك، مخزونك، حتى لا ينفد نفسك قبل أن ترفع رأسك من الماء.

يقول العلم: إن الطفو فوق سطح الماء هو خليط من المتواليات والحفريات وسلاسل التطور من كائن وحيد الخلية.. بسيط، إلى كائن معقد فى كل تفاصيله وأبعاده.. كل ما يستلزمه الطفو موجود فى جسم الإنسان، لكنه يحتاج إلى شجاعة أن تُظهر ما لديك، وأن تستفيد من إرثك.. الطفو عملية ميكانيكية، وليس عملية عقلية.

تقول المدربة: لا تخافى، جسم الإنسان يعوم فوق الماء من تلقاء ذاته.

يقول جسدى: يحتاج الأمر لبعض الاسترجاعات، بعض التنسيق لتحقيق التوافق، بعض المهارات الاستعدادية لتنفيذ التعليمات.

تقول المدربة: قاومى خوفك.

أؤكد لها: أنا خائفة.

تقول: تعاملى مع خوفك.

علىّ أن أثق بالماء، أن أثق بقوانين الطبيعة، لكن هذه القوانين تستلزم اتزانًا دائمًا، تستلزم استقامة كاملة كى لا تخل بشرطها.

كانت مفاجأة لمن حولى أن أفكر فى تعلم السباحة، وأن أُعبر عن هذه الرغبة، ثم أتخذ خطوات عملية لتنفيذها.. لماذا تتعلمين السباحة الآن وقد قاربت على الأربعين؟

لا تتعلمين السباحة كى تنقذى نفسك من الغرق.. السباحة لن تنقذك من دوامات المخاوف والأوهام، تطفو سفينة هيكلها من الفولاذ بحجم مدينة ويغرق مسمار.. ليس الوزن أو الثقل هو العامل المحدد، وإنما قدرتك على الإزاحة. الإبعاد، النفى لكل ما هو ضار ومعوق وغير ضرورى.. علىَّ أن أغير شكلى من مسمار إلى سفينة، يجب علىَّ فعل أشياء كثيرة كى أستطيع الطفو على الماء. بمجرد أن أفرد ذراعى على الماء، آخذ نفسًا عميقًا، أخفض رأسى، أرفع ساقىَّ وهما مفرودتان، والكعب مُلاصق للكعب..

لحظتها يكون علىَّ التخلى عن أثقالى، عن حذرى، عن مسئولياتى، عن تشنج جسدى.. فى لحظة التحرر هذه يكافئنى الماء فيرفعنى بهوادة وببطء، بتأنٍ وتمهل فأطفو.. أطفو.. وأسير مع تيار الماء.

فجأة تزداد دقات قلبى، وأخاف، فأفقد انسيابية جسدى وأتشنج، الاستسلام دومًا يعنى الموت، فيغرق جسدى ويتحول لكرة ضائعة فى دوامات الماء، أتخبط بذراعىَّ وساقىَّ، يتحول النور أسفل الماء إلى ظلام، أتوه، أتخبط أكثر، وفجأة أراها مجرد زهرة صغيرة، تنمو، حيث لا ضوء ولا دفء.. الزهرات الصغيرة التى تنمو فى الظلام تباغتها الدوامات، فلا تعرف كيف تتصرف حيال الموج المتدفق، وتغمرها شلالات الضوء، لكنها تتصرف بحنكة وحكمة، من علَّمك أيتها الزهرة أن تعتمدى على ساقيك، وأن تثنى رُكبتيك إلى باطنك وتدفعى بساقيك بقوة، وتضربى بكعبيك فى أعماق الأرض، وترفعى يديك وأوراقك عالية، فتكونى زهرة عباد شمس.

لم يُلاحظ أحد اضطرابى تحت سطح ضوء الماء، يداى أداة إنقاذ، إن استعملتها كمجداف مستقيم متوازن نجوت، عليك أن تدفعى بقوة.. كأم عليك أن تدفعى بقوة فى لحظات الولادة، تدفعين بقوة كى تتخلصى من الألم.. الوجع، لا تتخبطى كى لا يتلاعب بك الماء.. عليك أن تدفعى بقوة كى تقفى مستقيمة، كى تستعيدى توازنك وتبقى على قيد الحياة.. الاستقامة والتوازن هما سر البقاء، وما عداهما أشياء ثانوية.. لكن مَن منَّا يتحمل تكلفة الاستقامة؟.