رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هيكل عن خطاب «تنحى عبدالناصر»: أصعب شىء كتبته فى حياتى

هيكل  وعبد الناصر
هيكل وعبد الناصر

ظلت الإذاعة المصرية طوال أيام ٥ و٦ و٧ يونيو ١٩٦٧، تبشر الشعب المصرى بالنصر وتتحدث عن الخسائر الكبيرة التى تكبدها العدو الإسرائيلى.

وفى صباح يوم الجمعة ٩ يونيو، وضعت جريدة «الأهرام» عناوين «معارك رهيبة بالمدرعات فى سيناء»، و«القوات المصرية شنت أمس هجومًا مضادًا وعدة هجمات للعدو على الخط الثانى»، و«الأدلة على التواطؤ الأمريكى- البريطانى فى دعم إسرائيل بالجو تزداد وضوحًا كل يوم»، و«برغم الخسائر الشديدة التى ألحقت العدو فى الجو فإن هناك إمدادًا من الطائرات لا ينقطع عنه». 

وروى الكاتب صلاح منتصر فى عدد مجلة «أكتوبر» عام ١٩٩٢، أن هذه العناوين بثت فى نفوس المواطنين مشاعر الطمأنينة، وقبل أن يعلن الرئيس جمال عبدالناصر بشكل مفاجئ عن أنه سيوجه بيانًا إلى الأمة فى السابعة من مساء يوم التاسع من يونيو، خلت شوارع مصر من روادها، وظل المصريون أمام التليفزيون، ولم يبرح أحد منهم مقعده.

وقال: «حل الظلام على القاهرة بسبب أوامر عدم الإضاءة لظروف الحرب، وكان كثير من البيوت قد طلى زجاج النوافذ باللون الأزرق استعدادًا لأيام الحرب الطويلة»، متابعًا: «لزم الجميع منازلهم فى انتظار اللحظة التى ترقبوها بلهفة، الرئيس جمال عبدالناصر سيتحدث، ولا بد من أنه سيبشرنا بما أنجزناه فى هذه الأيام التى كنا ننتظرها بفارغ الصبر، ألم يسبق أن قال لنا ذلك؟».

فى تمام الساعة السابعة مساء، ظهر الرئيس جمال عبدالناصر وهو يتحدث من مكتبه، وكانت أول مفاجأة يعيشها المصريون، إذ لم يكن الوجه النضر المتدفق بالحيوية والنشاط الذى اعتادوه على الزعيم موجودًا، وعندما بدأ الحديث قال: «أيها الأخوة، لقد تعودنا معًا فى أوقات النصر وفى أوقات المحنة، فى الساعات الحلوة وفى الساعات المرة، أن نجلس معًا، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق، مؤمنين أنه من هذا الطريق وحده نستطيع دائمًا أن نجد اتجاهنا السليم مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتًا».

وأكمل «عبدالناصر» خطابه، وأعلن تنحيه، قائلًا: «لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر».

ووصف الكاتب الصحفى الراحل محمد حسنين هيكل هذا الخطاب الذى كتبه بنفسه ليقرأه «عبدالناصر»، بأنه كان أقسى ما عاناه فى حياته، وأن سطوره أرهقته أكثر من أى شىء آخر كتبه. 

وخرج الناس فى صباح يوم ١٠ يونيو، واستمرت المظاهرات، وأصبح الموقف أكثر مما يُحتمل، فعدل الرئيس جمال عبدالناصر عن قرار التنحى، وكتبت «الأهرام» عدد الأحد ١١ يونيو ١٩٦٧، أن الرئيس جمال عبدالناصر قرر أمام ضغط شعبى عربى غلاب أن يؤجل قراره بالتنحى عن رئاسة الجمهورية وعن العمل السياسى، ولقد حدث تحول شعبى مذهل فى مصر وفى العالم العربى فور أن أعلن «عبدالناصر» قراره. 

ويروى «منتصر» أن مئات الألوف زحفوا إلى بيت جمال عبدالناصر فى منشية البكرى، وزحفت الجموع إلى كل سفارة وقنصلية ومكتب ثقافى مصرى فى أنحاء العالم العربى تطالب «عبدالناصر» بالبقاء قائدًا للنضال العربى، وجاء، فى تقرير لـ«الأهرام»، أنه «لم ينم الرئيس ليلة أمس، فإن الجماهير ظلت تحيط ببيته وصوتها يخترق كل الحواجز إليه، وفى الصباح كان الضغط الشعبى فى مصر وفى العالم العربى كله قد أصبح غلابًا إلى درجة لا تقاوم، واضطر عبدالناصر أن يأخذ قرارًا بتأجيل تنحيه، وكتب خطابًا ليلقيه فى مجلس الأمة، ولكن وصوله إلى المجلس كان مستحيلًا استحالة مادية، شوارع مصر غطت عليها أمواج الجماهير المتدفقة، ولذلك بعثه فى رسالة إلى رئيس مجلس الأمة محمد أنور السادات حينها، ليتلوه على الشعب من المجلس».

وقرأ أنور السادات الخطاب ودوت فى أرجاء المجلس أصوات التصفيق، ووقف أحد الأعضاء من الفلاحين فوق مقعده يعبر عن فرحته بالرقص، وخرجت مظاهرات المواطنين تبارك قرار «عبدالناصر» بالبقاء.