رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع الأبنودى فى كل الأوقات

لم أتمكن من الكتابة بعد عن الكبير عبدالرحمن الأبنودى «١١ أبريل ١٩٣٨- ٢١ أبريل ٢٠١٥» لعدة أسباب، لأن شاعرى المفضل شخص مترامى الأطراف، لا يمكن الإمساك بعالمه بسهولة، فهو شاعر العامية المصرية الذى ينتمى شعره إلى ما يمكن تسميته «الشعر الإنسانى» الذى ينتمى إليه لوركا وناظم حكمت وبابلو نيرودا.

ومن المفارقات الغريبة المبهجة أنه بعد رحيله بعامين ترجم الإسبان أعماله الكاملة إلى الإسبانبة وحضرت السيدة زوجته نهال كمال احتفالية ضخمة أُقيمت فى مدريد بهذه المناسبة، وهو شاعر الأغنية الذى نجح مع مرسى جميل عزيز وصلاح جاهين وعبدالفتاح مصطفى وغيرهم فى نقل فن الغناء إلى عالم الشعر الشفاف النقى الشقى المباغت، بعد أن ركن كثيرًا إلى نوع محدد من الكتابة، وهو رجل السياسة الذى أصاب وأخطأ ولكنه عاش يعرف أعداء وطنه، وحارب مع من حاربوا، وشيّد مع من شيّدوا السد العالى، ولم يروج لمستبد، وهو الناثر الجميل الذى ستكتشف وأنت تقرأ «أيامى الحلوة» التى يرمح من خلالها فى ذكرياته الشاسعة.

إنك أمام روائى عظيم أو شاعر ربابة معاصر، وحين تقرأ روايته الوحيدة «قنديلة»، ستكتشف بُعدًا آخر فى شاعر الأحزان العادية، هو كتبها قبل ثلاثين عامًا وأكثر، وضاعت منه، واكتشفنا وجود نسخة منها عند الزميلة منى أنيس، وصدرت عن مؤسسة «الأهرام» عندما كنت مسئولًا عن النشر، هو خادم السيرة الهلالية الذى أفنى جزءًا كبيرًا من عمره فى دهاليزها.

وهو الذى بذل جهدًا جبارًا لتتبع ابن عروس فى مصر وتونس والجزائر والمغرب وليبيا، وكتب سلسلة مقالات عن الموضوع فى أهرام الجمعة لم تُنشر بعد حسب علمى فى كتاب، وقبل هذا وذاك هو الصديق العظيم الذى عرفته وأنا فى أول العمر، ولم يحدث بيننا غير جفوة صغيرة أخذت معها أربع سنوات من العمر، وكنت أنا السبب فيها، بسبب قلة الخبرة، والخضوع لابتزاز الحياة السياسية الشعبوية وقتها، الأبنودى هو الأقرب إلى قلبى من بين الشعراء، ليس فقط بسبب موهبته التى لا ينكرها إلا فقراء الخيال، ولكن لأنه كان مشغولًا بقضية الشعر، متابعًا تياراته واتجاهاته، لم يشعر بأنه فى منافسة مع أحد.

الآخرون كانوا يتخيلون أشياء غريبة، هناك من اعتبر الخال مسئولًا مباشرًا عن عدم شهرته، تسأله كيف؟، لا يجيب، هناك من تفنن فى نسج أكاذيب عن الرجل العظيم لا أساس لها من الصحة، شهدت وقائع وحكايات تؤكد نبل الخال، وفى المقابل شهدت حكايات ومواقف تؤكد خسة بعض خصومه، والكتابة عن هذه الوقائع لا ضرورة لها لأن معظم أطراف هذه الحكايات رحلوا، وبينهم من لهم أبناء لا يريدون «ولا نريد أيضًا» النبش فى الماضى.

الأبنودى كان محبًا للموهوبين، ويبحث عنهم، ليس فى الشعر فقط ولكن فى كل الفنون، كنت أذهب إليه فى بيته الريفى فى الإسماعيلية كثيرًا، وأنظر إلى ما يقرأ، لم أجد واحدًا من جيله تابع الحياة الثقافية وما تنتجه مثله، فقط لكى يطمئن على وجدان البلد، هو لا يعمل فى النقد ولا الصحافة، هو يريد أن يحيط علمًا بما يدور.

ولهذا ظلت لغته طازجة ومباغتة، كان صاحب ذاكرة قوية جدًا، تشعر معها بأنك أمام شخص أسطورى، قبل ذهابه إلى الإسماعيلية للعيش هناك بسبب ظروف صحية، فى الرئة، لا تستطيع أن تمشى معه فى الشارع، وأعتقد أن نجوميته كشاعر لم ينعم بها كثيرون مثله، ربما بسبب تاريخه مع الناس من خلال الإذاعة، من أيام حراجى القط وأحمد أبوإسماعيل ووجوه على الشط والسيرة الهلالية، كان يستأنف حوارات مع أشخاص تعرف عليهم للتو، ويسأل عن أحوال أقاربهم فى الصعيد أو دسوق أو بركة السبع، لم يتعرض أحد لاغتيال معنوى مثله، ومع هذا لم يرد الإساءة إلى أحد.

ويعلم الله أننى شهدت مواقف كثيرة كان فيها فارسًا مترفعًا عن الصغائر، بينى وبينه تاريخ طويل من الصداقة والشعر والمحبة، دعمنى معنويًا فى لحظات باعنى فيها أشخاص يعتقد الناس أنهم أقرب إلىّ منه، وأتمنى أن أكتب عنها فى يوم ما، كتابة أدبية، أحب الأبنودى الشاعر الذى يزلزلنى شعره ويلهمنى، الصديق الذى يعرف معنى الصداقة، كان يحلو له أن يقول:

«أنا صوتى منّى وأنا ابن ناس فقرا، شاءت ظروفى إنى أكتب واقرا، فباشوف وباغنّى، والفقرا باعتينى»، وحين تسوء الأمور يقول كأنه يصبّر نفسه ويواسى من يتحدث إليه «علمنى كتر البكا الشرب فى حفانى»، رحمة الله عليك يا خال وأتمنى أن أنجح مرة فى الكتابة عنك، ولن ننسى:

حاقولها بالمكشوف:خايف أموت من غير ما أشوف

تغير الظروف

تغير الوشوش..

وتغير الصنوف

والمحدوفين ورا

متبسمين فى أول الصفوف

خايف أموت وتموت معايا الفكرة

لا ينتصر كل اللى حبيته..

ولا يتهزم كل اللى كنت أكره ..

اتخيلوا الحسرة ؟!.