رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرب الطاقة الألمانية الروسية

 

هناك من يصفها بالصراع الأشرس الذى يدور على هامش الحرب الروسية الأوكرانية، أو بالأدق ما يجرى بين روسيا والمعسكر الغربى، وفى القلب منه دول الفضاء الأوروبى الذى تمثل فيه ألمانيا الاتحادية رقمًا مهمًا، ومحركًا رئيسيًا للأحداث وللقرار، فى فضاء بدا أنه استفاق من سبات استراتيجى، حيث وجد نفسه فجأة مطالبًا باتخاذ قرارات وصياغة مواقف لها بالغ الأثر فى معادلات التوازن الاستراتيجى الدولى. ألمانيا هذه الدولة المهمة كانت سبّاقة فى حدث الإفاقة، وتمارس منذ اللحظات الأولى لاندلاع الصراع على مقربة من حدودها الشرقية، ما يمكن اعتباره انقلابًا استراتيجيًا كاملًا.

واليوم على صعيد ملف الطاقة الشائك، حسب ارتباطه، حسبما وصف أمريكيًا ومن بعض الألمان أنفسهم، إلى أبعد مما يمكن احتماله فى الارتباط بالجانب الروسى، تقوم ألمانيا الأكثر تضررًا من الصدام مع روسيا بالعمل فى صمت وفى العلن على مدار الساعة، من أجل فك هذا الارتباط، أو على أقل تقدير بإعادة صياغته وفق الأسقف الآمنة التى يسمح بها المشهد العام فى الصراع الجارى.

آخر تلك الخطوات وأكثرها دلالة ما وصلت إليه الإجراءات الألمانية، كان الإعلان مؤخرًا عن أن برلين وضعت الشركة الألمانية «غازبروم جيرمانيا» المملوكة لشركة «غازبروم» الروسية للطاقة تحت وصاية الوكالة الاتحادية للشبكات. فى إعلان صادر عن وزير الاقتصاد الألمانى «روبرت هابيك»، الإثنين الماضى، مصحوبًا بتفسير للقرار باعتباره إجراءً قانونيًا أمام عدم وضوح العلاقات القانونية بين الكيانين، فضلًا عن وجود مخالفات للتعليمات الخاصة بعمليات التسجيل، والهدف منه فى كل الأحوال هو ضمان أمن الإمدادات.

فى اليوم التالى كان هناك بيان أكثر تفصيلًا خرج باسم الوزارة يحدد استناد القرار إلى قانون التجارة الخارجية، ويشير إلى أن «الوكالة الاتحادية للشبكات» ستكون وصية لفترة مؤقتة على شركة الطاقة الألمانية المملوكة للجانب الروسى. وستقوم الوكالة الاتحادية خلال فترة انتقالية، من خلال الوصاية بلعب دور الشريك، مما يضمن أن تقوم الشركة بممارسة أعمالها بشكل مطابق للقانون. وحرصت الوكالة على التأكيد أن هذه الخطوة من شأنها الحفاظ على إمداد آمن للطاقة، من خلال إدراك الوكالة المسئولية المرتبطة بهذه المهمة.

شركة «غازبروم جيرمانيا» تمتلك بدورها مجموعة من الشركات التابعة، التى تعمل جميعها فى مجال صناعة الغاز الألمانية، وقد خرج إعلان فى بداية الأزمة الأوكرانية صادر عن غازبروم الروسية العملاقة للطاقة، أفادت فيه بتخليها عن شركتها غازبروم جيرمانيا، وأنها أنهت آخر مساهماتها فى الشركة الألمانية وكل أصولها.

فى الوقت الذى كان يؤكد فيه وزير المالية الألمانى «كريستيان ليندنر»، أن ألمانيا لا يمكنها الاستغناء عن إمدادات الغاز الروسى فى الوقت الراهن، محذرًا من أن العقوبات المفروضة على موسكو فى هذا القطاع بالخصوص، ستضر بدول الاتحاد الأوروبى أكثر من روسيا. لذلك أصبح هذا الأمر كاشفًا عن وزن هذا الملف المحفوف بالمخاطر فى مجمل الصراع الذى تخوضه ألمانيا عن بُعد، وتتحرك فيه وفق رغبتها الصادقة للانفلات من هذه القبضة الخانقة، التى جعلت مساحات الحركة أمامها ضيقة بأكثر مما كان متوقعًا لديها على الأقل. حيث ازداد اعتماد ألمانيا على واردات الطاقة الروسية بشكل كبير، خلال السنوات العشر الماضية، فمنذ عام ٢٠١٢ ارتفعت حصة إمدادات الغاز الطبيعى الروسى وحدها من ٤٠٪ إلى ٥٥٪، بمعدل زيادة يربو إلى الثلث، دون إغفال أن ذات الفترة شهدت ارتفاع واردات ألمانيا من النفط الروسى قفزًا بالحصة الروسية إلى أن تمثل ٤٨٪ بعدما كانت ٣٨٪.

تظل هناك جوانب مخفية لم يلق عليها الضوء الكافى بعد، داخل صراع هذا الملف الدقيق، ليست له علاقة ببدائل إمداد ألمانيا بالغاز والنفط لتعويض تلك النسب المرتفعة فى الاعتمادية على روسيا. حيث تواجه الخزانة الألمانية تحدى فروق الأسعار الكبير الذى ظل لسنوات فى صالح أسعار تفضيلية، يبدو أن الكرملين كان يخص بها ألمانيا مما شكل سببًا فى توسيع التعاون، وصولًا للمشروع الأضخم الذى كان يضم الطرفين قبيل تلك الأزمة «نوردستريم ٢»، وهو يعد محركًا رئيسيًا من محركات تصاعد الأزمة بين أوكرانيا وروسيا. فكييف استفادت لسنوات من مرور الخطوط القديمة عبر أراضيها، قبل أن يأتى هذا المشروع والخط العملاق ليهدد مصالحها ويضرب اقتصادها فى مقتل يصعب تعويضه. لهذا لن يكون توفير البدائل مقتصرًا على وجود المورد القادر على تعويض النقص، بل وستستعد الخزانة الألمانية حينها لدفع الفروق الكبيرة المنتظرة فى الأسعار، وهذا مما تحاول الولايات المتحدة التخفيف من أعبائه. وهناك أمر تكشف مؤخرًا قبيل الإعلان عن وضع «غازبروم جيرمانيا» تحت الوصاية، له علاقة بالقدرات التخزينية الألمانية. فأوروبا ظلت تقف أمام ثلاثة خيارات لتعويض الانفلات من قبضة روسيا؛ أولها الحصول على المزيد من الغاز الطبيعى من البلدان الموردة الأخرى عبر خطوط الأنابيب، أو استيراد المزيد من الغاز الطبيعى المسال عبر الناقلات، ويبقى فى الأخير السحب من مرافق تخزين الغاز. وحتى هذه اللحظة من عمر الأزمة، انصب الجهد الألمانى فى غالبيته على الخيار الثانى كحتمية عاجلة. وقد تشارك الاتحاد الأوروبى فى توفير ١٢٠ سفينة ما مجموعه «١٠ مليارات» متر مكعب من الغاز الطبيعى المسال إلى القارة، وهذا على الأقل حقق تأمينًا معقولًا من إمدادات الطاقة، طوال الأسابيع الأولى من عمر الأزمة، فى وقت كانت إمدادات الغاز الطبيعى المسال غير مضمونة إلى حد بعيد.

المثير أن ألمانيا وفق التقارير والتقديرات الأوروبية، تعد من الدول المتقدمة فى امتلاك منظومة تخزين اتحادية كبيرة ومتطورة، فألمانيا تمتلك رابع أكبر سعة تخزين للغاز الطبيعى فى العالم، هذا بالتأكيد أحد الأسباب التى تجعل كثيرين، خاصة فى السوق الداخلية للاتحاد الأوروبى، ينظرون الآن إلى منشآت التخزين الألمانية باعتبارها عمقًا استراتيجيًا لدول الاتحاد. ليتبين أنها ممتلئة بـ«٤٢٪» فقط فى بداية الأزمة الأوكرانية، وقد وصلت الآن لمستوى ٢٠٪ تقريبًا، وهو حد مثير للقلق بالفعل. خاصة أن الأمر لم يقف عند هذا النقص وحده، فما نسبته ١٥٪ من مرافق تخزين الغاز الألمانية تتم إدارتها من قبل شركات تابعة لمجموعة «غازبروم جيرمانيا»، التى بدورها ذات ارتباط بالشركة الروسية الأم. لهذا وضع انسحاب الأخيرة أمن الإمدادات فى خانة الخطر التى تحدث عنها أكثر من وزير ألمانى كما أسلفنا، فقد جاء الانكشاف حادًا وصادمًا فى حال نظرنا إلى مرفق تخزين فى ولاية «ساكسونيا» على سبيل المثال، تبين أن الموجود فعليًا فيه لا يتعدى ٥٪. علمًا بأنه أكبر منشأة لتخزين الغاز فى أوروبا الغربية، وهو مملوك لشركة أورورا التابعة لـ«شركة غازبروم».

بعد هذه التكشفات على أكثر من صعيد فى مجال التخزين، الذى يعد الأسهل فى طيات ملف الطاقة، خاصة مع دولة مثل ألمانيا تحتل هذه المكانة المتقدمة فى بنيتها التحتية القادرة على إدارة الاحتياجات بشكل مريح، لكنها تفاجأت وكأن روسيا قد لجمت أيديها بصورة لم يسبق لها مثيل، ولهذا كان الإيقاف السريع لمشروع «نورد ستريم ٢» وأعقبه قرارات مثل الاستحواذ والتحفظ الأخير، لكن هل سيقف الأمر عند هذا الحد المشتعل بالأساس، ربما تظل الإجابة معلقة بأحداث الميدان العسكرى وبالمسار التفاوضى بأكثر منه ارتباطًا بدواخل تفاصيل الملف إلى حين.