رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد القصبجي.. أدخل التوزيع الهارموني على الموسيقى العربية

القصبجي
القصبجي

يعد محمد القصبجي، والذي غادر عالمنا قبل ستة وخمسين سنة في مثل هذا اليوم من العام 1966، واحد من أعظم عباقرة الموسيقى والتلحين الذين عرفتهم مصر خلال القرن المنصرم. 

شكل محمد القصبجي مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم ثنائي فني لا تزال أصداء إبداعهما وفنهما تتردد بين جيل إثر جيل. حيث لحن لها أغنيات: صباح الخير ياللي معانا٬ نورك يا ست الكل٬ ياللي انحرمت الحنان٬ رق الحبيب٬ هايم في بحر الحياة٬ يا قلبي بكرة السفر٬ عطف حبيبي وهناني٬ ما دام تحب بتنكر ليه٬ حرمت أقول بتحبيني٬ ياللي جفيت ارحم حالي، يا فؤادي غني ألحان الوفاء٬ طاب النسيم العليل وغيرها.

توسع محمد القصبجي في استخدام المقامات الموسيقية والجمل اللحنية، مع إعطاء “التخت” مجالا أوسع ليشترك مع كوكب الشرق في التعبير والأداء اللحني. وبذلك بدأ التخت الشرقي خطواته الأولي ليقف أخيرا على أعتاب التحول إلى نوع من الأوركسترا المستعرب الذي اتخذ طابعا خاصا يختلف عما كان عندنا قديما وعما عند الأوروبيين.

ويمضي الناقد والمؤرخ الفني كمال النجمي، حديثه عن الموسيقار محمد القصبجي، لافتا إلى أنه: "الحقيقة أن تجارب محمد القصبجي في تلحين قصائد أم كلثوم وأغانيها الزجلية في الثلاثينيات جديرة بدراسة واسعة، فإنه يخيل إلي أن القصبجي كان يتطلع في تجاربه هذه إلى إدخال نوع من الهارموني على الغناء والموسيقى في بلادنا. ومن يتأمل ألحانه يجد بعضها طيعا للتوزيع الهارموني البسيط.

وقد وصل محمد القصبجي بالفعل إلى هذه المرحلة سنة 1936 عندما لحن لأم كلثوم أغنية “منيت شبابي” وأغنية “يا مجد ياما اشتهيتك” وهما من الأغاني الزجلية في فيلم “نشيد الأمل”، وقد تم توزيع الألحان والموسيقى على أسس هارمونية.

ولكن أم كلثوم لم تندفع في هذا الاتجاه الفني، فالحقيقة أن حكاية الهارموني هذه ليست بسيطة، فماذا تصنع أم كلثوم في السلالم أو الدرجات أو المقامات المتعددة في موسيقانا العربية.

ويتسائل “النجمي”: هل تتنازل عن معظم هذه المقامات وتكتفي بالمقامات القليلة التي انتهت إليها الموسيقى الأوروبية بعد أن اجتازت مرحلة الميلودي إلي مرحلة الهارموني؟ 

ويستطرد: لقد قذف الموسيقيون والملحنون الأوروبيون منذ زمن بعيد بثروة من المقامات إلي أعماق البحر، وهم الآن يتحسرون وينظرون إلينا قائلين: هؤلاء الشرقيون مازالوا يحتفظون بثروتهم من المقامات والألحان. 

فالمقامات الكثيرة التي ألغاها نظام التأليف الهارموني في الموسيقى الأوروبية والغناء الأوروبي، لا تغرينا نحن العرب بإلغاء مقامات موسيقانا، أو معظم مقاماتها، فإذا خسرنا هذه الثروة الطائلة، فماذا نربح بدلا منها؟. وهكذا كانت تجربة محمد القصبجي في “الهارموني” لمحة خاطفة انطفأت ولم تعقب أثرا حقيقيا.

ــ محطات في مسيرة محمد القصبجي
ولد محمد القصبجي في بيت بشارع حسن الأكبر بعابدين٬ لأب مشهور هو الشيخ علي إبراهيم القصبجي المنشد والمقرئ ذائع الصيت٬ حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره٬ وكان مفتونا بأبيه الذي لا يكف عن تدريب تلاميذه على أصول العزف على آلة العود والغناء٬ وينتهز فرصة غياب أبيه عن المنزل فيقوم بعزف كل ما استمع إليه من دروس٬ وهكذا بالسليقة دون أن يدربه أحد٬ وكانت نداءات الباعة السريحة تسحره فيعزفها على العود ويغنيها.

وفي عام 1912 حصل على دبلوم المعلمين بترتيب متقدم وحاول إسقاط نفسه في الكشف الطبي هربا من مهمة التدريس٬ إلا أن أبوه أفسد عليه لعبته وتوسط لتعيينه مدرسا٬ لكنه ما لبث أن استقال من مهنة التدريس بعد عامين ليحترف الغناء والتلحين والتأليف الموسيقي٬ ولما لم يجد مؤلفا غنائيا يسعفه صار يؤلف لنفسه كلمات يلحنها ويغنيها إضافة إلى الأدوار الشائعة لمحمد عثمان وداود حسني٬ ثم انضم إلى تخت محمد العقاد كعازف للعود.

وفي هذه الفترة أتقن العزف على القانون والكمان٬ ثم إنه استقل بحياته وأصبح يعطي دروسا في تعليم العود والكمان والقانون٬ وكان الموسيقار محمد عبد الوهاب من بين التلاميذ الذين تعلموا على يديه أصول العزف على العود٬ وقد سمعه عازف الناي "عبده صالح" والد القانونجي الشهير "محمد عبده صالح" فقدمه لمطربة شهيرة اسمها "توحيدة" تغني في صالة ألف ليلة وليلة بميدان العتبة٬ غنت من ألحانه دور "الحب له في الناس أحكام" فذاع صيته بين يوم وليلة٬ وتكالبت شركات الإسطوانات تطلب ألحانه لمطربيها٬ وكان محمد عبد الوهاب بمثابة النوتة الموسيقية التي يسجل عليها القصبجي ألحانه حتى لا تضيع من ذاكرته.

ـــ نقطة التحول الكبرى في حياة محمد القصبجي

يقول المؤرخ الموسيقي محمود كمال أن العام 1928 شهد نقطة التحول الكبرى في حياة محمد القصبجي، بمحاولته تصوير قالب المونولوج ــ مناجاة النفس أو الحديث المنفرد ــ ولم يكن هذا القالب شائعا في الغناء العربي حيث القوالب الشائعة هي الموشح والدور والقصيدة والموال والطقطوقة، واستطاع القصبجي أن يؤسس لهذا القالب في أغنية “إن كنت أسامح وأنسى الأسية” من كلمات أحمد رامي، فإذا به يضع نقطة التحول في تاريخ الغناء العربي التي أحدثت انقلابا مدويا في الأذواق والمعايير ونجحت نجاحا غير مسبوق لدرجة أن الأسطوانة بيع منها مليون نسخة وهذا رقم أسطوري في ذلك الحين، كان ذلك اللحن إرساء لهذا القالب على قواعد صحيحة من العلم والفن، نموذجا للتأليف الموسيقي تلعب فيه الجملة اللحنية دورا ظاهرا بجانب الغناء، مما جعل محمد عبد الوهاب يقتدي به في تلحين المونولوج فيما بعد ويمشي على دربه.

ويلفت محمود كمال إلى: "وشأن كل المجددين في كل الفنون جوبه محمد القصبجي بحملة شعواء من أنصار الموسيقى التقليدية، حيث اتهموه بالفرنجة والخروج على التقاليد الموسيقية العربية إلا أن أنصار التجديد وعلى رأسهم داود حسني وقفوا في صفه ودافعوا عنه، ثم أن ذوق الجماهير الذي استوعب هذا التجديد وانبهر به كان أكبر نصير للقصبجي، وقد تعلم تدوين الموسيقى في البداية من أبيه الذي كان بدوره قد تعلمه من أحد الأتراك، إلا أن القصبجي بقوة إرادته الصلبة صار يشتري الكتب والمراجع الموسيقية ويعكف على دراستها وفك رموزها، كما تعلم فن التوزيع الموسيقي الأوركسترالي، وإذا كان محمد القصبجي قد ولد مع سيد درويش في عام واحد، فإن كلاهما قد أعجب بالآخر إعجابا كبيرا.