رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حقيقة التنوير بين المفهوم الإسلامى والإستعمال الغربى ( دراسة)

جريدة الدستور

عصر التنوير الأوروبي، وجهاد فلاسفته، جاء ثورة علي عصور تحكم الكنيسة، في أوروبا إبان فترات ظلامها ونظرا للحكم الكهانوتي الذي سد جميع الطرق أمام العقول جاءت ثورة العقول الأوروبية ثائرة علي الدين ورجاله، فتولدت أفكار سياسية وإجتماعية مثل الليبرالية الرأسمالية والشيوعية.

وأعجب بها بعض مفكري الإسلام وحاول نشرها مستشرقين كثرين ويبقي الخلاف محتدما بين قضية العقل والنقل، وهذا ما نحاول توضيحه في هذه الدراسة التي أجراها الدكتور صلاح سعد استاذ العقيدة بكلية أصول الدين، محاولا وضع توضيح اكاديمي يبين حقيقة التنوير بين المفهوم الإسلامي والإستعمال الغربي.


بداية فلسفة التنوير يعرفها صلاح سعد، بأن فلسفة التنوير الأوروبى جاءت لإحلال العقل محل الوحى، والإستفهام محل الإيمان، والحرية والتسامح محل العبودية والتعصب، فهى مثلت ثورة ضد الحق الألهى فى تجاوز العقل، فبفضل فلسفة التنوير بدأ الفكر الأوروبى يشعر بالتحرر من الموروث اللاهوتى المتعلق بالحضارات الشرقية على وجه الخصوص.

وظل طوال عهده يهتم بالشرق بزعم الدفاع عنه وعن حقوقه، وأخذ مكانه اللائق فى التاريخ الفكرى، مقترنا بالنقد العنيف ضد المعتقدات المسيحية وتبعياتها وانعكاساتها على القيم الأخلاقية والمفاهيم السياسية، والآداب والفنون.

بداية الظهور

وعن تاريخ ظهور هذا المصطلح يقول سعد، بأن بدايته اقترنت بولادة الليبرالية كقوة اجتماعية جديدة وصاعدة، عبرت عن طموحاتها الذاتية التى ما كان لها أن تتحقق دون تحرير المؤسسات والعقول من الأغلال التقليدية التى صمدت لقرون طويلة أمام عقائد مطلقة ومقدسة أحيانا.

والصراع الأساسى الذى بدأته فلسفة التنوير هو الصراع بين المذهب التجريبى الوضعى وبين المفهوم الإيمانى الدينى الغيبى الذى تمثل فى حركة الإصلاح الدينى التى طالبت بالعودة الى مصادر الإيمان (أى الى نصوص العهدين القديم والجديد )، فى حين ترى فلسفة التنوير أن الكتاب المقدس ليس سوى مجموعة من الأساطير والخرافات التى يجب على العقل المستنير رفضها.

مرحلة الانتقال إلي العالم الإسلامي

وعن بداية نتقال التنويرإلي العالم الإسلامي يؤكد سعد، أن فلسفة التنوير بعد أن أدت دورها فى أوروبا وحققت ما تصبوا اليه، انتقلت الى بلاد العالم الإسلامى لكى تٌطبق هذه التجربة على أهل الرسالة الخاتمة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولكن بثوب جديد وهدف جديد، ونسوا أن هناك فارقا بين الديانتين، دين يُكبل العقل ويرفض ما يأتى به من أفكار، ودين يأمر العقل بأن ينطلق ويفكر ويٌبدع.


وأوضح لكن فى اطار التعاليم الدينية التى تجعله متمسكا بإيمانه بخالقه عز وجل الذى وهبه هذا العقل وهذا الأخيرهو التنوير الإسلامى الذى أعلى من شأن العقل ورفع من قدره فى حدود دينه وحدود تعاليمه المستقاه من الكتاب والسنة، تنوير به يزذاد المؤمن إيمانا بخالقه الذى هداه الى الإطلاع على كنه هذا الكون وتغيراته وما سخره الله للإنسان، فكيف يقولون للمسلم تخلى عن دينك وكتابك وحررعقلك من قيد النصوص.

أساليب نشر الغرب لأفكاره خارج الحدود

وعن أساليب نشر الغرب أفكاره خارج حدوده، فقال أستاذ العقيدة والفلسفة، إن عادة الغرب عندما يريد أن ينشر فكرا ما يُجند له من أهله أناسا يرعاهم ويهبهم الأموال والمناصب حتى يكونوا نجومًا يُقتدى بهم، كما حدث مع بعض المبعوثين العلميين فى البعثات التى ذهب فيها طلابنا من بلاد العالم الإسلامى، ثم عادوا رموزا ومفكرين، ثم بعد ذلك يٌصبحوا دعاة لهذه الأفكار الضالة.

وأضاف الباحث: عندما نتحدث عن مصطلح التنوير يتبين لنا أن هذا المصطلح لم يبدأ فى العصر الحديث فقط كما يزعم البعض لكنه بدأ ببداية الإسلام متمثلا فى كتاب الله العزيز الذى استخدم هذا المصطلح فى كثير من آياته، وسنة النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى بعض أحاديثه،حتى وإن كان ظاهر هذه الآيات والأحاديث لم تكن بهذا اللفظ الذى نحن بصدد الحديث عنه، لكن معانى هذه الألفاظ تؤدى الى مضمونه ومعناه.

مواكبة التنوير للعصر

وعن مواكبة التنويرالإسلامى العصر الحديث في إطار أصوله الثابتة الراسخة، يشير الباحث أن التنوير الإسلامي يؤمن بالتغيير والتطوير، ولكن التغيير والتطور في الأشكال والأساليب والأدوات في إطار علاقة تأثيرية متبادلة ومتفاعلة بين الثوابت والمتحولات وبين الخالد والمؤقّت وبين الفطري الدائم والاجتماعي العارض، بحيث لا يكون التطور تحريفًا ومسخًا وانفلاتًا، ولا يكون الثبات جمودًا على شكل واحد وأسلوب واحد، وهي إشكالية ليست سهلة كما يظن البعض، بل تحتاج إلى بصيرة وفقه ودين.


وتابع: لكن هناك دعوى التخلف التنويرى الاسلامى نتيجة تربص بعض الحاقدين على الإسلام وأهله، الذين يزعمون أن الفكر التنويرى لايتفق مع الإسلام نتيجة تمسك المسلمين بالنصوص الدينية، فيدعون أن المصطلح تقدمى والإسلام رجعى، وليس هناك نقطة التقاء بينهما.مع أنهم لو اطلعوا على مادة الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم لعلموا أن القرآن الكريم سبق العلم الحديث فى اكتشافات العلوم بآلاف السنين، بل من أراد الحقيقة يعلم جيدا أن العلماء فى هذا المجال قد استمدوا معلوماتهم من القرآن الكريم وهم يغفلون عن قول الله عز وجل (قل انظروا ماذا فى السماوات والأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون ).

أسباب ظهور التنوير الأوروبي

ويري الكاتب أن أسباب ظهور مصطلح التنوير الأوروبي، هى الظروف التى سادت أوربا عندما حكمتها البابوية واللاهوت الكنسى، وقد نظر فلاسفة أوروبا الى هذه الفترة بأنها حجر عثرة يقف فى طريق أوروبا الفكرى، فهم الفلاسفة بطى هذه الصفحة، واحلال التنوير محلها، وعلى أساس هذه الفلسفة التنويرية تأسس الإحياء الأوروبى والنهضة الأوروبية الحديثة.

وفى سبيل تحقيق هذا الهدف نهضت أوروبا بمبدأ العلم والإحتكام الى العقل فى مواجهة الجهل والخرافة، الذى يرونه متمثلا فى الدين.

وذكر الكاتب أنه من ضمن الأسباب أيضا أن اوروبا كانت تعيش فى حالة من الظلام الفكرى الدامس، وذلك بوقوعها تحت سلطة الكنيسة التى كانت تتعقب المفكرين أينما كانوا، وظل الصراع على أشده بين المفكرين واللاهوتيين قرونا عديدة، وتمخض من هذا الصراع انتصار الفكر وتقلص السلطة الكنسية واستقلال العلم عن الدين.

ويقول الباحث لقد وصفت آراء الكنيسة ورجالها فى العصور الوسطى بأنها كانت تمثل تفسير الظواهر الكونية، مدعين أن الدين وحده متمثلا فى الكنيسة يختص بتفسير هذه الظواهر، وأن الخروج عليها كفر والحاد، ويكون جزاؤه الطرد من رحمة الكنيسة.

احتكار الكنسية للعقول

وعن نتائج إحتكار الكنيسة لنتاج العقول يؤكد سعد، علي أن نتيجة هذا الإحتكار من جهة الكنيسة للعقول أن العلماء لم يفرقوا بين رأى رجال الكنيسة والدين الصحيح فى مفهومه العام، وصار الدين عندهم تجسيدًا للتخلف والجهل والخرافة، واصبح رجل الدين عندهم رمزا لكل هذه المعانى، فوصفوه بأنه: داع للجهل – محارب للعقل – رافض للعلم.

وإننا نرى فى موقف الكنيسة فى عهد سلطانها على الدولة وتسلطها على الفكر والعلم وميادين الإجتماع البشرى كافة، وهو الموقف الذى جعل النصرانية وفق لاهوت الكنيسة نقيضا، وليس بديلا عن للعقل والعلم والفلسفة، فلقد أقامت نصرانيتها على الخوارق لنواميس الكون وقوانين الإجتماع وحقائق العلم، وجعلت الكهانة والعصمة لرؤساء الدين، وجعلته بابا للنجاة والإفلات من قواعد وضوابط وقوانين العلم والعقل والناس، ودعت الناس الى الزهد فى الدنيا، فى حين أن الكنيسة امتلكت الأرض والأموال ورقاب العباد،وقدمت الكتاب المقدس بديلا عن العلوم جميعا، بما فيها العلوم الإنسانية والطبيعية.

إوعن إزدواجية معايير الكنيسة في معاملة أتباعها يقول صلاح، أننا نجد مفارقة غريبة عند الكنيسة فى تعاملها مع أفرادها ومع نفسها، فهى تحرم على أتباعها ما تٌحله لنفسها مما دفع أتباعها للثورة عليها.ان هذا السقوط الذى وقعت فيه الكنيسة بفرض آرائها على العلماء ودعوى احتكارها تفسير الظواهر الكونية،ووجوب الخضوع لتفسيراتها، وقبول آرائها فى تفسير الظواهر الطبيعية،كل ذلك أدى الى ظهور حركة التنويرالعلمى الرافض لهذه الآراء.

معلنة أن ما يدعيه رجال الكنيسة باطل لاحقيقة له، وجهل لايستند الى علم، وخرافة لايقبلها عقل.والدليل على هذا هو أن مظاهر النهضة الأوربية لم تظهر الا فى أعقاب العصر الصليبى بعد أن ظهرت كتب ارسطو ومتحف الاسكندرية اللتين طال العهد على خمودهما وإهمال الناس لهما، فإذاهما يظهران من جديد، وحقق العرب فى حقول العلوم الرياضية والطبية والطبيعية ضروبا من التقدم، فاختفت الأرقام الرومانية وحلت محلها الحروف العربية، وغير ذلك من العلوم.

تأثير التنوير علي الأوروبيين

وعن تأثير التنوير علي المجمتع الأوروبي يشرح الباحث أنه كان تنويرا للقرون الوسطى المظلمة التى عاشتها أوروبا، حين سقطت روما فى القرن الرابع عشر وعادت النهضة، وكان الإستقلال بالرأى والإعتماد على العقل فى تفسير الظواهر، ومعرفة كنه الأشياء المتمثلين فى التنوير الأوروبى، كان استقلالا عن هيمنة الفكر الكنسى، وعقلانية رافضة للكهنوت،وتحررا من صورة المسيحية الغربية التى كانت سائدة حينئذ.

فقد ظهرت النهضة الأوروبية بعد أن فقدت العصور الوسطى قوة التأثير على المجتمع الأوروبى، وعنده ظهرت عواما وتطورات مختلفة عن عوامل العصر الوسيط، وظهرت أنشطة فردية وجماعية مبعثرة ومتجمعة خرجت منها أنظمة جديدة تناولت البناء السياسى والإجتماعى والفكرى والثقافى والأخلاقى والدينى للمجتمع الأوروبى، كما حدثت آفاق علمية جديدة تناولت النظريات والمبادىء الجغرافية والعلمية، ومن هذا النفوذ الروحى الضخم بدأ ظغيان الكنيسة الأوروبية الذى لم يقف عند السلطان الروحى، بل أصبح طغيانا شاملا يشمل كل جوانب الحياة: فهو طغيان مالى يفرض على الناس عشور أموالهم، ويفرض عليهم الإتاوات، ويسخرهم للعمل مجانا فى أرض الكنيسة التى أصبحت بمرور الزمن من ذوات الإقطاع، وطغيان فكرى يحدد للناس ما يجوز ومالايجوز لهم أن يفكروا فيه، والطريقة التى يفكرون بها، وذلك بما يتلائم مع فهم رجال الدين، الذين لهم وحدهم حق تفسير النصوص الدينية وطغيان سياسى على الملوك والأباطرة يُخضعهم لسلطان البابا، فلا يصبحون حكاما شرعيين إلا بتنصيب البابا، وطغيان علمى يتمثل فى نظريات العلم بالرفض والإباحة.

فلا يبيح للعلماء أن يقولوا إن الأرض كروية، وإنها ليست مركزا للكون، وتحرقهم الكنيسة إن قالوا ذلك كما فُعل بجوردانوبرونو، وكما حُكم على كوبرنيقوس لكنه مات قبل تنفيذ الحكم عليه، وعلى جاليليو الذى تظاهر بالإرتداد فنجا، وكان الطغيان العلمى على وجه الخصوص،وإحراق العلماء أحياء من أشد ما نفر الناس فى أوروبا من الدين.

انتشار الإلحاد

وعن سبب إنتشار الإلحاد يبين سعد، أن العلماء فتحوا الباب لدعاة الإلحاد على مصراعيه للثورة على الكنيسة والدين معا، حيث صوروا الموقف على أنه صراع بين الدين والعلم، وليس بين رجال الكنيسة والعلماء، أو بين النوروالظلام، أوبين التقدم والتخلف، وكان مفهوم التنويرعندهم يعنى التحصن بمنطق العلم والعقلانية ضد هذا الدين ورجاله، الذين يمثلون الجهل والخرافة، فكان لابد أن ينتصر العلم فى مواجهة الجهل، وينتصر العقل فى مواجهة الخرافة.

وحتى نفهم هذا المعنى للتنوير الأوروبى، لابد من فهم الواقع الفكرى الذى جاء هذا التنوير رافضا له وثورة عليه، هذا الواقع الذى كانت الكنيسة قد غرقت فى الفساد والإستبداد، وجمدت الحياة الدنيا والمعارف والعلوم عندما قدستها وثبتتها بوضعها فى قوالب اللاهوت المقدس، وساد الإضطهاد حتى للمخالفين فى المذهب، واصبحت العقوبة على إقامة قداس برتستانتى، فى مجتمع كاثوليك سجن النساء مدى الحياة، وإرسال الرجال للتجديف حتى الموت، وإعدام الكهنة، وكانت المواكب تسير فى ذكرى المذابح الدينية شكرا لله.

كل ذلك جاء فى عصر انفجر فيه بركان العقلية الأوروبية، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الدينى، فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التى اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها فى صرامة وصراحة، واعتذروا عن إعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم.

من أجل ذلك ظهرت فئة أدركت أنه لا أمل في الإصلاح، ولا في التحديث الحقيقي دون البداية بالإصلاح السياسي الهادف أساسًا إلى القضاء على الحكم المطلق الاستبدادي، وتأسيس نظم دستورية جديدة،وتحويل نظم "الملك المطلق"،إلى «ملك مقيّد بقانون»، الملكية الدستورية، التي عرفتها البلدان الأوربية في القرن التاسع عشر.

الإسلام مصدر التنوير لكل الأديان

وفى النهاية يؤصل سعد،أن الدين الإسلام الخاتم لكل الإسلام والجامع لكل الملل والنحل هو المصدر الأساسى للتنوير،أما التنوير الغربى العلمانى الذى يدعوا الى الإنحراف عن جادة الصواب فيكون مقصده وهدفه غير الهدف المراد من التنوير بمعناه الصحيح.

فعندما ترد مشتقات التنوير فى القرآن والسنة فهذا مؤشر على أن هذا المصطلح شىء جميل ومرغوب فيه، وعندما ننظر الى الظروف التى من أجلها نشأ التنوير الأوروبى نعلم أن من وراء هذا المصطلح أهداف خبيثة تكيد للإسلام وأهله تحت مسمى التنوير.

لقد اختلطت المفاهيم وشاب بعضها غموض افتعلته فئة من الناس الذين تعالت أصواتهم هاتفة بالتنوير، دون تحديد لمعناه، أو توضيح لغايته؛ أو شرح لمحتواه، بل بتحريفٍ متعمد لمفاهيمه، وبتزوير مقصود لدلالاته ومقاصده. وبذلك تُحجب الحقيقة، ويُضل الفهم، ويقع الناس في لبس عظيم.

كما أن الدعوة الخاصة بالتنوير المتمثلة فى الإلتزام بالتطبيق الأوروبى فى المجتمعات الإسلامية هى دعوة فاشلة فى تحقيق أهدافها،لأن التنوير لايمكن أن يتم إلا عندما يتفق مع الهيكل الأساسى لحضارة هذه المجتمعات وهو الإسلام.