رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المرجئة.. مواقف الفرقة بين السياسة والدين وامتدادها في العصر الحديث

جريدة الدستور

ارتبطت نشأة الفرق الإسلامية كلها بتحديد مفهوم الإيمان بالله تعالى، وما يرتبط به، ويعتبر الخلاف حول تحديد هذه المسائل أول خلاف ظهر في تاريخ الإسلام، والذي بدأ على يد فرقة الخوارج، ثم تلا ذلك انشقاقات ونزاعات أخرى أدت لظهور الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة والكلابية والأزارقة، وغيرها من الفرق الإسلامية التي خالفت منهج الصحابة رضوان الله عليهم في الكثير من أصول الدين، وامتد الاختلاف من الأصول إلى الفروع ومازال تأثير ذلك قائما إلى اليوم.

 

وحول هذه الفرق يبدأ موقع "أمان" سلسلة التعريف بها وبيان عقيدة كل فرقة على حدة وأهم أفكارها ورموزها، وأين موقعها من الخلافات بين المسلمين اليوم في قضايا السياسة والدين.


المرجئة

ظهر مصطلح الإرجاء في بداية الأمر سياسيا على خلفية مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يعني إرجاء أو تأخير أمر مقتله، وانتقل المصطلح من واقعه السياسي إلى مسائل العقيدة والإيمان، وانقسم المرجئة حينئذ إلى نوعين هما: مرجئة الفقهاء، مرجئة الجهمية.

 

مرجئة الفقهاء:

 

وهم الذين يقولون إن: الإيمان هو التصديق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل، أي إخراج الأعمال من مسمى الإيمان، وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ (1).

 

 

مناقشة التعريف

 

يشمل التعريف السابق ثلاثة نقاط أساسية أولها معنى الإيمان، ثانيا هل يزيد الإيمان وينقص أم يظل ثابتا، وهل يمكن أن يشهد العبد على نفسه بأنه مؤمن حقا مستحق للجنة ولا مجال للتفكير في أنه سيدخل النار، ويمكن تتبع ذلك فيما يلي:

 

1- معنى الفقرة السابقة أن المرجئة يسقطون الأعمال من مفهوم الإيمان، فالإيمان لديهم مجرد التصديق القلبي دون أن ينطق اللسان أو تتحرك الجوارح بالأعمال، وبالتالى فالعبد يكون مؤمنا لمجرد ذلك حتى لو لم ينطق لسانه بما يثبت إيمانه كنطق الشهادتين مثلا، وكذلك ليس مطالبا بالإتيان بالأعمال ومن بينها بالطبع حركات الصلاة والصيام والحج والجهاد وغيرها من أعمال الجوارح، رغم أن الأدلة الشريعية في الكتاب والسنة تقول غير ذلك وتأتي الأعمال مقترنة دائما بالإيمان ومنها قول الله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) [البقرة:25]، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [البقرة:82].

 

وقد ورد الإيمان مقترنا بالعمل الصالح في القرآن الكريم 50 مرة، وهو ما يشير إلى أهمية العمل بالنسبة للإيمات وأن ركن من أركانه ولا يكون العبد مؤمنا إلا بالعمل.

 

2- وانسحب هذا المفهوم أيضا إلى القول بأن الإيمان ثابت لا يعتوره الزيادة أو النقصان، فالإيمان يتساوى بين الجميع طالما يصدق به القلب، يتساوى في ذلك إيمان الأنبياء والملائكة مع إيمان من لم يأت بشيء من لوازم الإسلام حتى وإن وقع في أمور الشرك.

 

وقد وردت أيضا الكثير من الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه في الكتاب والسنة، نذكر منها:

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].

وقوله تعالى: ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]

 

3- وينسحب أيضا على أن يقع العبد في الاغترار بالنفس وتزكيتها وأن يشهد لنفسه بأنه من المؤمنين الذين يستحقون الجنة في الآخرة، وكأنه اطلع على الغيب أو علم كيف يكون حاله عند موته، وهو ما يخالف نصوص الشرع، كما يخالف ما اتفقت عليه العقول السوية، ويطلق العلماء على ذلك مصطلح "الاستثناء في الإيمان" وهو أن يقول العبد انا مؤمن إن شاء الله، لأن الله تعالى هو وحده المطلع على قلوب العباد وأعمالهم، وللعلماء في هذا تفاصيل كثيرة، وتحتمل لديهم الأحكام الخمسة التحريم والاستحباب والكراهة والتحريم والإباحة.

 


أقوال السلف في المرجئة

 

ولما انتقل القول بالإرجاء من الجانب السياسي إلى الجانب الفقهي، دخل في الإرجاء الكثير من العلماء المجتهدون، ومنهم الأحناف، ولم ترتق مخالفاتهم فيها إلى الجانب العقدي، بل كانت مجرد خلافات لفظية فقط، وقد شهد بذلك ابن تيمية، الذي نقل موقف الكثير من السلف حول مرجئة الفقهاء وهو ما يمكن أن تراه في مؤلفات الإمام الآجري واللالكائي وابن رجب الحنبلي وابن بطة والخلال وغيرهم.

 

" ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال.

 

فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء، حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم  -  يعني المرجئة  -  أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة.

 

وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء". (2)

 

ولا شك أن التهاون في القول بالإرجاء كان سببا كما أوضحت الفقرة السابقة- في الكثير من التراخي في أعمال الجوارح حتى ترك أناس الصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد بزعم أن الإيمان مستقر في قلوبهم وأنه ثابت لا ينقص بالمعاصي.


الإرجاء والتطرف

 

والتفريط في الدين أيضا نوع من أنواع التطرف والبعد عن وسطية الإسلام، ولذلك فقد انعكس الإرجاء على الكثير من المسلمين اليوم، ويظهر ذلك في ظهور التهاون في أداء شعائر الإسلام، في جانبي العبادات والمعاملات من جهة، وجانب العقيدة من جهة أخرى، فكثيرا ما تسمع من البعض حينما يقع في معصية أو كبيرة مقولة "ربك رب قلوب" أو "طالما قلبك نظيف، فسوف يغفر لك الله"، ومنها أيضا "كل الناس خير وبركة" وهذه المقولات تعد ترجمة حقيقية للإرجاء وإن كان صاحبها لا يدرك ذلك، فمعنى هذه العبارات أن من حق الإنسان أن يفعل ما يشاء من معاصي طالما قلبه مؤمن بالله، وكذلك أنه يشهد لنفسه بالإيمان ويزكيها ولا يستثني في ذلك بقوله إن شاء الله، كما يتساوى في نظره كل الناس المؤمن والفاسق والكافر، وهي من الأمور التي لا يقبلها شرع ولا تجد ما تستند إليه من الشرع ايضا.

 

ورغم أن الإرجاء عندما ظهر في الأمة الإسلامية لم يكن دعوة للتفلت من الدين والبعد عن حقيقته، إلا بعد أن وجد فيه الكثير من أصحاب الهمم الضعيفة ما يريحهم، فبدأ التراخي عن العمل لما وجدوه في الإرجاء من تفسير مريح لما هم عليه.

 

الإرجاء والجماعات الإرهابية

 

كثيرا ما نسمع مصطح الإرجاء في أدبيات الجماعات الإرهابية، ينعتون بها المجتمعات المسلمة، كما يصفون به العلماء الذين يعارضونهم ويثبتون ضلالهم وانحرافهم الفكري، صحيح أن هناك في المجتمع الكثير من المظاهر الشكلية غير المتعمدة للإرجاء، والتي تظهر في صورة تقصير في الأعمال وفهم الدين، وتستغل الجماعات المنحرفة هذه الظواهر في محاولة إثبات بعد المجتمعات عن الدين الصحيح تمهيدا لتكفير المسلمين، ويبدأ ذلك بوصف المجتمعات المسلمة بالكلية بالإرجاء.

 

كما يظهر هذا المصطلح في الصراعات الداخلية بين هذه الجماعات فعندما يجنح فريق منها إلى مسالمة المجتمعات أو الأنظمة الحاكمة وتلتمس الأعذار للمسلمين الذين يسقطون في المعاصي تهب الجماعات الأخرى بوصفه بالإرجاء، وقد ترتب على ذلك خلافات أخرى فيما يسمى العذر بالجهل، فريق من هذه الجماعات يعذر المجتمعات المسلمة بالجهل وفريق آخر لا يسمح بذلك ويطلق على الفريق الأول المرجئة.

 

ومن أبرز الذين اتهمتهم الجماعات الإرهابية بالإرجاء الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني، خاصة بعد موقفه من العمليات الانتحارية التي ينفذها الجماعات المسلحة، وكذلك موقفه من جماعة الإخوان المسلمين والتيار السروري على وجه الخصوص(3).


مرجئة الجهمية

 

وتتمثل عقيدة مرجئة الجهمية في أن "الإيمان هو المعرفة  بالله تعالى ورسوله، وبجميع ما جاء من عنده فحسب، وإن لم يكن  معها شاهد بلسان ولا إقرار بنبوة ولا تأدية فريضة، وزعموا أن  إيمانهم كإيمان جبريل والملائكة والنبيين عليهم السلام، حتى إنهم  قالوا: لو قال رجل بلسانه لله ولد أو له صاحبه أو له شريك أو غير  ذلك وهو يعتقد بقلبه خلافه أنه مؤمن، لا يضره ما ذكره بلسانه،  هذا خلاف الشرع.(4)

 

وتنسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان، وهو تلميذ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري سنة 124 هـ بتهمة الزندقة والإلحاد. والجعد أول من ابتدع القول بخلق القرآن، وتعطيل الله عن صفاته.

وكان جهم يخرج بأصحابه فيقفهم على المجذومين ويقول: انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا لرحمته كما أنكر حكمته.

قال عبد القاهر البغدادي:

“ووصفه بأنه قادر وموجد، وفاعل، وخالق، ومحيي، ومميت؛ لأن هذه الأوصاف مختصة به وحده. وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به. وكان جهم مع ضلالته التي ذكرناها يحمل السلاح ويقاتل السلطان، ويخرج مع سريج بن الحارث على نصر بن سيار، وقتله سلم بن أحوز المازني في آخر زمان بني مروان" (5).

 

.............................................

مراجع ومصادر:

(1) انظر: شرح السنة للبغوي، 1/41، حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني ، 7/29.

(2) الشريعة للآجري، 2/677، والإبانة الكبرى، لابن بطة العكبري، 2/885.

(3) من ذلك وصف سفر الحوالي للإمام الألباني بالإرجاء في كتابه "ظاهرة الإرجاء في العالم الإسلامي".

(4) انظر كتاب (عقائد الثلاث والسبعين فرقة 1/273).

(5) الفرق بين الفرق، عبدالقاهر البغدادي، ص128، وسير أعلام النبلاء، للذهبي، 6/ 26 - 27، وديوان الضعفاء، (792)