رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد إقبال.. «تجديد الفكر الديني الإسلامي»

محمد إقبال
محمد إقبال

يعتبر الفيلسوف والشاعر الباكستاني محمد إقبال، أحد المفكرين المسلمين الذين حملوا راية تجديد الفكر الديني في القرن الماضي، والذي بدأه برفع راية العصيان على التقليد الغربي المتأثر بالماديات، وكان سبيله إلى ذلك رفع قيمة الروحانيات التي يفتقدها الغرب، مقابل المادة التي بدأت تتسلل للمجتمعات المسلمة، خاصة بلاده مع الاستعمار.

وقد تميزت كتابات إقبال بنوع من الشعر الفلسفي، الذي كان له أثر كبير في نفوس الباكستانيين وغيرهم من أصحاب المنهج الروحي والفلسفي من المسلمين، وكانت كلماته تعبيرا عن آمال وهموم المسلمين الاجتماعية والثقافية في الهند، ويعتبر إقبال أول من دعا لاستقلالهم بأرض خاصة بهم، وبالفعل ظلت دعوته وكتاباته باقية إلى أن قامت دولة باكستان عام 1947 بعد وفاته.

ترك "إقبال" الكثير من الأعمال الأدبية منها: "أسرار خودي" أي أسرار "الأنا" أو أسرار الذات، وكتبه بالفارسية عام 1915م، و"بيام مشرق" أي رسالة المشرق. كتبه أيضا بالفارسية عام 1923، وكان بمثابة جواب على الشاعر ألمانيا (جوته)، و"بأنك درا" وكتبه باللغة الأوردية عام 1924، ويحتوي على أنشودة من الأناشيد الوطنية التي كانت تردد أثناء عهود الاضطراب التي سبقت استقلال الهند وتقسيمها إلى دولتين: إسلامية وهندوسية، ومن أهم كتبه "جافيد نامه" بمعنى "الكتاب الخالد"، الذي يعتبر صدى للكوميديا الإلهية التي ألفها الشاعر الإيطالي دانتي.

ويظل كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" محاولة جريئة من إقبال لتأصيل نظرات دينية عقلانية من زاوية فلسفية عقلية بحتة على الخطاب الديني في العصر الحديث، وكان عبارة عن سبع محاضرات تعتبر هي الكتاب الوحيد المكتوب نثرا لإقبال، وألقاها في مدراس وحيدر أباد وغيرها، بهدف إعادة بناء الفسلسفة الدينية الإسلامية.

وعن تجديد الفكر الديني، يقول إقبال: "واللحظة الراهنة لحظة مواتية تماما للقيام بهذه المهمة، فقد تعلم علم الفيزياء الكلاسيكية أن ينتقد أسسه العلمية، وكنتيجة لهذا النقد بدا ذلك النوع من المادة التي افترضها من قبل يتلاشى الآن بسرعة، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي سيكتشف فيه العلم والدين أن بينهما تناغما متبادلا غير مشكوك فيه، وعلينا أن نتذكر أنه لا يوجد شيء نهائي في التفكير الفلسفي، فكلما تقدمت المعرفة تنفتح آفاق جديدة للفكر، ومن الممكن أن تظهر وجهات نظر أخرى أفضل من هذه التي أطرحها في هذه المحاضرات، ومن ثم فواجبنا أن نرقب بعناية تقدم الفكر، وأن نحافظ على موقف نقدي مستقل تجاهه".

وتظهر من خلال هذه الفقرة النزعة التجديدية في فكر محمد إقبال في شكل مزيج فلسفي من العلوم العصرية المادية، والبحث فيما وراء الطبيعة، بنظرة عقلية، ظهر فيها تأثر إقبال بالحضارة الشرقية التي نشأ فيها في خليط بين فلسفات الديانات الشرقية، وثقافته الفلسفية المستمدة من تعليمه الأوروبي واختلاطه بفلاسفة وأدباء الغرب.

وتعبر فلسفة إقبال عن ثورة إسلامية ضد الجمود الفقهي الذي ظل مسيطرا على الساحة لقرون، وهو ما جعل الكثير من المفكرين المسلمين يعتبرونه أحد أهم مؤلفات النهضة الإسلامية، وقد عبرت عن ذلك الشيماء الدمرداش العقالي في تقديم كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام" طبعة دار الكتاب المصري (القاهرة)، ودار الكتاب اللبناني (بيروت).

قالت الشيماء: "ويعد كتاب تجديد الفكر الديني في الإسلام من أهم الكتب النهضوية التي تهتم بإيقاظ المسلمين من غفوتهم وتنبههم إلى عمق دينهم وعظمة حضارتهم، وتعد الفكرة الأساسية للكتاب هي الارتقاء بالذات الإنسانية، والعمل على وصلها بالمعرفة الحق، ويطرح إقبال الثوابت الإسلامية مقارنة بمتغيرات العصر من فلسفات غربية ونظريات شرقية، ويؤكد على مفهوم الأمة ونقد العصبية القومية، وينزع إقبال بين طيات كتابه إلى نقد الغرب المادي الخالي من الروح وإظهار عظمة الإسلام الداعي إلى سمو النفس وإعلاء شأن الذات".
(انظر: تجديد الفكر الديني الإسلامي، محمد إقبال، 33)

ورغم دعواته الإسلامية للتحرر من الاستعمار بكل أشكاله؛ إلا أنه ظل متأثرا بهذا الخليط الفكري بين الفلسفة الغربية والديانات الشرقية القديمة في نظرته لله والخلق، لكنه يحاول الخروج من دائرة وحدة الوجود التي تطغى على الفلسفة الغربية، والحلول والاتحاد المتأثرة بالديانات الشرقية القديمة المهيمنة على المجتمعات الهندية وأواسط آسيا، من خلال إعادة شرح وتفسير هذه الأفكار من منظور ديني إسلامي، إلا أنه يظل أسيرا لها.

ويحاول إقبال إعادة مناقشة النظريات الفلسفية عن مفهوم الإلوهية، من منظور إسلامي، بعيدا عن تقليد المتقدمين من السلف، محاولا طرح القضية بشكل يتوافق مع العقل والنقل بثوب جديد.

وحول الإله، يطرح إقبال سؤالا، فيقول: " السؤال الحقيقي الذي علينا الإجابة عنه هو: هل الكون يواجه الله كشيء مغاير له (جل وعلا) وأن بينهما فراغا مكانيا يتوسط بينه وبين هذا الشيء المغاير؟... "

ويجيب بنفسه، فيقول: "والإجابة هي: أنه من وجهة النظر الإلهية ليس هناك خلق بمعنى حادث معين له "قبل" وله "بعد"، فالكون لا يمكن اعتباره حقيقة مستقلة تقف في تضاد مقابل الذات الإلهية. والنظر إلى الموضوع بهذه الرؤية يختزل كلا من الله والعالم إلى كيانين متقابلين، كل منهما في مواجهة الآخر في داخل وعاء فارغ لفضاء لانهائي، وقد رأينا (فيما سبق) أن المكان والزمان والمادة إنما هي تفسيرات ألحقها الفكر بالطاقة الخلاقة الحرة لله، فهي ليست حقائق مستقلة في ذاتها، ولكنها فقط حالات عقلية لفهم الحياة الإلهية".
(انظر: تجديد الفكر الديني الإسلامي، محمد إقبال، ص111)


ولا تبتعد هذه النظرة إلى طبيعة الإله والخلق عن نظرة فلاسفة الغرب والفلاسفة المسلمين المتأثرين بنظرية الفيض ومن بينهم ابن سينا والفارابي وغيرهم من أصحاب المدرسة المشائية، ويحاول إقبال من ناحية أخرى إعطاء الصبغة الروحية، لتلك النظرية، للخروج إلى آفاق أوسع لفهم أدق ليس فيه بعد عن الإسلام، وتلمس ذلك في الروحانيات.

وينتقل إقبال للإجابة على السؤال الذي طرحه لدى الصوفية، فيقول:

"وقد أثيرت قضية الخلق بين مريدي الصوفي المشهور أبي يزيد البسطامي، فقال أحد أتباعه بصراحة ما يقبله العقل بفطرته: "كان الله ولا شيء معه" فأجاب الولي بنفس اللهجة قائلا: "إنه الآن هو هو كما كان"، وهكذا فإن العالم المادي ليس شيئا يشارك الله في القدم والأزلية وأن الله يفعل فيه ما يشاء وهو على مسافة منه، وإنما هو في طبيعة الحقيقة فعل واحد متصل، ولكن يقوم الفكر بتجزيئه إلى كثرة من أشياء متعددة منفصة ومعزولة بعضها عن البعض الآخر".
(انظر: تجديد الفكر الديني الإسلامي، محمد إقبال، ص112- 113)

ثم يتحدث إقبال عن الصلاة وعلاقتها بهذه النظرية العقلية ويعتبر أنها "من الناحية السيكولوجية لها أصل غريزي فأفعال الصلاة باعتبارها هادفة إلى المعرفة إنما تشبه التأمل، ومع ذلك فالصلاة في أسمى مراتبها تزيد كثيرا عن مجرد التأمل وهي أيضا عملية تمثل، شأنها في ذلك شأن التأمل ولكن عملية التمثل في حالة الصلاة تتبلور، وبذلك تكتسب قوة غير مألوفة في التفكير المجرد، ففي التفكير نجد العقل يلاحظ ويتتبع عمل الحقيقة، بينما في الصلاة يوقف العقل عمله كباحث عن كليات بطيئة الخطو ويسمو فوق التفكير كي يمسك بالحقيقة ذاتها لكي يصبح شريكا في وجودها واعيا بها وليس هناك شيء غامض في ذلك، فالصلاة كوسيلة للإضاءات الروحية هي فعل حيوي عادي تكتشف بواسطته الجزيرة الصغيرة لشخصيتنا موقعها في خضم الحياة الكلي الأكبر".
(انظر: تجديد الفكر الديني الإسلامي، محمد إقبال، ص151)

وينتقل إقبال من تحديد مفهوم الألوهية والصلاة إلى البحث في ذات الإنسان وحريته وخلوده في الفصل الرابع، ويخصص الفصل الخامس للحديث عن روح الثقافة الإسلامية.

أما الفصل السادس فكان محاضرة عن مبدأ الحركة في بناء الإسلام فيقول:
"الإسلام كحركة ثقافية يرفض النظرة الاستاتيكية القديمة للكون، ويتبنى نظرة ديناميكية يتسم فيها الكون بالحركة والتغير، والإسلام كنظام وجداني لتوحيد البشرية يرفع قيمة الإنسان الفرد من حيث هو فرد ويرفض قرابة الدم كأساس لوحدة البشرية، فقرابة الدم مادية وجذورها في الأرض، ولا يمكن البحث عن أساس سيكولوجي بحت لوحدة البشرية إلا بإدراك أن الحياة الإنسانية روحانية في أصلها ونشأتها".

وينطلق محمد إقبال ليحلق في مراتب الصوفية في الفصل السابع فيطرح سؤالا: هل الدين أمر ممكن عقليا؟

يقول إقبال: " نسطيع القول- على وجه العموم- بأن الحياة الدينية يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الإيمان، ومرحلة الفكر، ومرحلة الكشف وتبدو الحياة الدينية في المرحلة الأولى كشكل من أشكال النظام ينبغي على الفرد والأمة بأكملها أن تقبله كأمر غير مشروط ودون التكلف بإعمال العقل في فهم معنى هذا الأمر أو غايته القصوى، هذا الموقف له آثار هائلة في التاريخ السياسي والاجتماعي لشعب من الشعوب ولكن ليس له أثر كبير فيما يتعلق بالحياة الجوانبية ونموها واتساعها.

في المرحلة الثانية نجد أن الخضوع الكامل لنظام ما يتبعه تفهم عقلاني لهذا النظام وللمصدر الأعلى لمرجعيته؛ ففي هذه المرحلة تبحث الحياة الدينية عن أسسها في نوع من الميتافيزيقا، بنظرة متسقة منطقيا في رؤيتها للكون مع الله كجزء من هذه النظرة.

أما في المرحلة الثالثة فيحل علم النفس محل الميتافيزيقا وتنمي الحياة الدينية في الإنسان طموحه إلى الاتصال المباشر بالحقيقة المطلقة، وهنا يصبح الدين مسألة قوامها التمثل الشخصي للحياة ويكتسب الفرد شخصية حرة لا بالتحلل من قيود الشريعة ولكن باكتشاف المصدر المطلق لهذه الشريعة في أعماق وعيه هو- كما ورد في كلمات صوفي مسلم إذ يقول: (لا يمكن فهم القرآن الكريم فهما صحيحا إلا إذا استشعر المؤمن كأن القرآن يتنزل عليه هو شخصيا كما كان يتنزل على النبي) ولذلك فإنني أستعمل كلمة دين بمفهوم هذه المرحلة الاخيرة من تطور الحياة الدينية".
(انظر: تجديد الفكر الديني الإسلامي، محمد إقبال، ص303- 304)

ويرى إقبال أن: "الدين لا يتنافر من النظرة التجريبية في زماننا المعاصر مع أن الدين في أعلى مراتبه إنما هو بحث عن حياة أعظم وهو أساسا تجربة، ويعترف بالتجربة كقاعدة له وذلك قبل أن يتنبه العلم الحديث إلى هذا بزمن طويل، فالدين مجهود صادق لتصفية الوعي الإنساني".
(انظر: تجديد الفكر الديني الإسلامي، محمد إقبال، ص305)