رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الأزهر والبرلمان ».. صدام ومناورات تاريخية حول قانون الوقف

الأزهر
الأزهر

لم يكن قرار هيئة كبار العلماء برفض مشروع قانون الأوقاف الذي تم عرضه على مجلس الشعب مؤخرا تحت مسمى "مشروع قانون إعادة تنظيم هيئة الأوقاف المصرية" لتعديل أحكام القانون رقم 80 لسنة 1971الأول من نوعه في هذا الشأن، ولم يكن هذا هو الصدام الوحيد بين هيئة كبار العلماء والدولة متمثلة في رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء حول ماهية هذا القانون وتبعاته.

الصدام الأخير كان الأربعاء الماضي عندما أصدرت هيئة كبار العلماء قررها بعدم جواز تغيير شرط "الواقف"، وهي القاعدة الشرعية المتعارف عليها في قضية الوقف "شرط الواقف كنص الشارع" وعلى ذلك نقلت الهيئة ما اتفق عليه الفقهاء قديمًا وحديثًا، ومن ثم لا يجوز بأي ذريعة مخالفة شرط الواقف، أو التصرف في الوقف على غير ما شرطه، ويعد ذلك مخالفة للأحكام الشرعية المتفق عليها.

وبناء على ذلك لا توافق هيئة كبار العلماء ولا مجمع البحوث الإسلامية على مشروع النص المقترح المقدم من مجلس الشعب بشأن مدى مشروعية نص المادة الأولى من مشروع القانون المقترح والوارد للأزهر من اللجنة الدينية بمجلس النواب لبيان الرأي الشرعي في هل (يجوز لرئيس مجلس الوزراء – في الوقف الخيري- تغيير شروط الواقف إلى ما هو أصلح، تحقيقًا لمصلحة عامة تقتضيها ظروف المجتمع).

السطور التالية تكشف كيف عالجت المؤسسة الدينية والإدارات السياسية مشكلات الوقف الخيري بدأ من القرن التاسع عشر، حتي منتصف القرن العشرين لكي تخرج بشرط الواقف علي هذا المقاصد التي كان تقصدها القاعدة الشرعية.


محاولة قدري باشا 

كانت المحاولة الأولى لمحمد قدري باشا الذي كان يعمل بنظارة الخارجية والمستشار بالمحاكم المختلطة سنة 1894 بهدف سن قانون جديد يخص نظام الوقف، ورغم أهميته واستناده لبعض النصوص الفقهية التي يجوز فيها تحويل شرط الواقف إلى ما هو أصلح، حسب ظروف المجتمع لكنها جاءت لتكريس ما جرى عليه العمل في السابق دون نقد أو تمحيص، حتى أن كثيراً من مواد كتابه الذي وضعه للقضاء على مشكلات الأوقاف بحسب كلام الدكتور إبراهيم البيومي غانم في دراسته مقاصد الشريعة في مجال الوقف كانت مقاطع منقولة حرفيا من حجج الأوقاف الأهلية والخيرية ووصف ما احتوته من شروط بأنها صحيحية.

وأعاد قدري باشا تأكيد موقف الأحناف من قاعدة " شرط الواقف كنص الشارع " هكذا على إطلاقها بدون نقد لهذه المقولة كما تعرض لها بعض الفقهاء المعاصرين أمثال الشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ على الخفيف، والشيخ أحمد إبراهيم والشيخ أحمد فرج السنهوري والتي تناولت قوانين الوقف الإسلامي والعمل بها.

ولقد أورد قدري باشا: أن شرط الواقف المعتبر كنص الشارع في الفهم والدلالة ووجوب العمل به كما ورد في قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف. 


جهود الشيخ المطيعي المفتي الأسبق 

المحاولة الثانية: كانت من الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية في العشرينيات من القرن الماضي بجانب جمعية العلماء في دمشق، فقد أعملوا نظرية أصول الفقه وليس مقاصد الشريعة في دفاعهم على الوقف، إذ كان أكبر همهم هو ضحض الهجوم العاصف الذي استهدف الإطاحة بنظام الوقف في السنوات الأولي من القرن العشرين مما جعل أي محاولة لتقييد أو تغير نظام الوقف الذي اشترط عليه تبوء بالفشل الذريع.

وعلى مدى النصف الأول من القرن الماضي دار جدل متعدد الأبعاد اجتماعياً واقتصادياً وفقهياً وقانونياً حول الوقف الأهلي وامتد الأمر إلي نظام الوقف برمته، ومع بداية العهد الملكي تم ربط القضية بمجمل القضايا الفكرية والثقافية فتقدم عدد من النواب إلى البرلمان بمشروع قانون يطلب بعضهم فيه حل الوقف الخيري وإبطاله والبعض الآخر من النواب زاد في الأمر فطالب بتقييده، وعلى الفور تم عرض المشروع على المجلس الأعلى للأزهر ليقول أعضاء هيئة كبار العلماء برأيهم ووضعوا في ذلك كتابا اثبتوا فيه أن الوقف تصرف من التصرفات الإسلامية الثابته بفعل النبي والخلفاء الراشدين ومن بعده التابعين وهي من تصرفات المسلم الذتية التي لا يجوز منعه عنها أو تقييد حقه فيها كما نشر في مجلة الأزهر السنة الاولي ـ العدد الثاني ـ في 11 فبراير 1932م. 

ورغم هذه الفتوى الصريحة إلا ان النزاع استمر قائما فعقدت هيئة كبار العلماء اجتماعا من جديد في سنة 1936م برئاسة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر، وعضو هيئة كبار العلماء وتمسكوا أيضاً أن الوقف بقسمه الخيري والأهلي مشروع، وأنه من الدين وأنه لازم بمجرد الصيغة ولا يجوز لكائن من كان إبطاله أو تحويله على شرط الواقف ونشر بيان بذلك المحتوى في جريدة الأهرام بتاريخ 3ابريل 1932م . 

وأسفرت هذا الحملات بعد ذلك بحسب قول الباحثة ذوات عرفان المغربي المتخصصة في تاريخ الأزهر وهيئة كبار العلماء عن صدور قانون رقم 48 لسنة 1946م والذي عدل أحكام الوقف وأدخل عليه تعديلات جوهرية بخلاف النظام السائد أنذك حيث أجاز الرجوع في الوقف وكان من قبل لا يمكن الرجوع عنه وجعل مدة الوقف 60 سنة ثم ينقل بعدها.


عبد الناصر ومنع إنشاء أوقاف أهلية جديدة

ولما قامت ثورة 23يوليو 1952م كان أول قرارات الرئيس عبد الناصر منع إنشاء أي أوقاف جديدة غير الخيري منها وتم حل الوقف الأهلي وتقسيم أعيانه على مستحقيه وصدر هذا القانون في 14سبتمبر1952م بأسبوع واحد وهو نفس القانون الذي حدد الملكية بمائتي فدان للفرد، ومئة فدان أخرى لأولاده، وقررت الحكومة الاستيلاء على الأراضي الزائدة لتوزيعها علي صغار الفلاحين، ويحسب قول الباحثة "ذوات عرفان" بأن الملاحظ أن هذا القانون جاء ولم تتخذ هيئة كبار العلماء أي رد فعل تجاهه برغم أنه يعود إلى قانون عام 1926 الذي طرح في البرلمان أيامها عندما أثيرت قضية الوقف الأهلي فعارضتها الهيئة، وأصدرت بيان واجتمعت بعدها بعدة سنوات وأصدرت نفس القرار والذي اعتبرتها الباحثة فتوى مما يوحي بموافقة الهيئة علي قرار مجلس قيادة الثورة ويلغي فتوى عام 1926م.

وأشارت الباحثة إلي أن ما أقدم عليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد أن حل الوقف الأهلي قيامه بحل المحاكم الشرعية عام 1955م ، مما أثار هذا القرار حالة من الجدل الواسع فى داخل مصر وخارجها وهنا يبرز موقف هيئة كبار العلماء فتراوحت مواقفهم بين المؤيد والمعارض، وكان المعارضون من هيئة كبار العلماء حينئذ هو الشيخ محمد الخضر حسين عضو هئية كبار العلماء الذي سرعان ما استقال واتفقت معظم الآراء من المتابعين لشأن الأزهر الشريف حينها على أنها احتجاج على إلغاء هذا المحاكم لأنه كان من رأيه أن يندمج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي وليس العكس، لأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للقوانين.


مواقف هيئة كبار العلماء
وقد نهج نهج الشيخ الخضر حسين الشيخ محمد عبد اللطيف دراز وكيل الأزهر حينها وقدم استقالته هو الآخر.

وفي مقابل المعارضون لإلغاء المحاكم الشرعية من هيئة كبار العلماء وجد المؤيدون أيضا وعلي رأسهم شيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن تاج الذي أيد الإلغاء عمليا-- بالذهاب مع عدد من العلماء لتهنئة الرئيس عبد الناصر على اتخاذ هذا القرار الذي اعتبره خطوة تحريره على حد قوله للمحاكم، مما جعل الكثيرين يقارنون بين موافقة الشيخ عبد الرحمن تاج على قرار حل المحاكم الشرعية عام 1955م ، وموقف الشيخ الخضر حسين والشيخ حسونة النواوي والذي كان يشغل منصب مفتي الديار وقد تم عزل النواوي حينها عام 1900م نتيجة الخلاف الذي حدث في أواخر عام 1899م بشأن قانون إصلاح المحاكم الشرعية عندما تم انتداب قاضيين مدنيين من محكمة الاستئناف الأهلية لمشاركة قضاة المحاكم الشرعية في إصدار الأحكام وعارض هذا القرار الشيخ حسونة النواوي معتبراً أن المحاكم الشرعية ليست في حاجة لرجال قانون مدني للتدخل، وعارض النواوي القانون بشدة واحتدم الجدال وخرج من المجلس مغاضباً وحاول الخديوي عباس حلمي الثاني إقناع المفتي بقبول القرار فرفض فتم عزله وتم بعدها إلغاء المشروع برمته.