رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معارك الظل.. ماذا يجرى بين إيران وإسرائيل؟

مساء الإثنين، أعلن الجانب الإسرائيلى عن تعرضه لهجوم سيبرانى واسع النطاق، امتد ليشمل غالبية المواقع الحكومية، حجب الهجوم إمكانية الوصول لتلك المواقع لفترة امتدت ساعات، قبل أن تتمكن «المديرية الوطنية للأمن السيبرانى» من تدارك الأمر جزئيًا وصار الوصول للمواقع متاحًا فى حال جرى من داخل إسرائيل لكنه ظل محجوبًا لإمكانية استخدامه من خارجها لأيام.

منظمة «نتبلوكس» المتخصصة فى مراقبة حركة الإنترنت فى أنحاء العالم؛ حددت بشكل مبدئى الآلية المستخدمة فى الهجوم، بأنها جرت عبر إغراق مكثف لخوادم تلك المواقع بطلبات الوصول، مما تسبب فى هذا الشلل الذى أعاق عمل السياجات الأمنية التلقائية، التى يفترض أن تلك الخوادم مزودة بها لمواجهة عمليات التخريب أو الإعاقة. 

فى اليوم التالى مباشرة؛ أعلنت وحدة قرصنة إلكترونية تابعة لـ«الحرس الثورى الإيرانى» تسمى «Black Shadow» عن مسئوليتها عن الهجوم، وذكرت فى بيانها بعضًا من المواقع الإلكترونية الإسرائيلية التى استهدفتها، ومنها بالتحديد مواقع الموساد والمراكز الأمنية المسئولة عن حماية الفضاء الإلكترونى الإسرائيلى، فضلًا عن منظومة الاتصالات الفضائية. وزير الاتصالات الإسرائيلى «يوعاز هندل» نفى أن تكون الهجمة الإلكترونية قد طالت مواقع حكومية أمنية حساسة، رغم إقرار «هآرتس» أن من بين ما تعرض للهجوم مواقع وزارة الداخلية والصحة والقضاء والرفاه، ومكتب رئيس الوزراء «نفتالى بينيت». طوال اليوم التالى للهجوم، ظلت مؤسسة الدفاع و«المديرية الوطنية للإنترنت» فى حالة طوارئ معلنة، للوقوف على حجم الضرر، وللتحقق من المواقع الاستراتيجية والبنية التحتية الحكومية المعنية بتقديم الخدمات العامة، مثل شركات الكهرباء والمياه، لمعرفة ما إذا كانت قد تعرضت للهجوم أيضًا والاطمئنان على استمرار كل منها فى تقديم الخدمة. لكن مما هو لافت أن يبقى هناك تأكيد إسرائيلى رسمى فى أكثر من وسيلة إعلامية، أن الهجوم الأخير يعد أكبر هجوم إلكترونى على الإطلاق ضد إسرائيل، مع الترجيح بأن تكون جهة حكومية أو منظمة كبيرة هى التى نفذته.

على خلفية تلك الإعلانات السريعة المتبادلة من كلا الطرفين؛ يمكن اعتبار أن معارك الظلال قد انتقلت إلى العلن، وأن شراسة المواجهة التى ظلت تجرى فى صمت لسنوات صارت مسموعة الصوت، ومتبادلة الأثر. فقد كان لسنوات مضت هناك هجمات سيبرانية وضربات استخباراتية، امتلكت فيها تل أبيب اليد العليا وأصابت أكثر من هدف بأضرار موجعة لطهران، أشهرها النجاح فى تعطيل وعرقلة أجهزة التخصيب النووى الإيرانى عام ٢٠١٠ باستخدام فيروس «ستاكس نت». ومن ثم النقلة الأخطر التى جرت باستهداف «مجمع نطز» النووى فى عام ٢٠٢٠، التى تسببت فى وقوع انفجار كبير حينها، وكشفت عن وجود خرق كبير لشبكة التشغيل والاتصالات فى المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية. فبعد تكتم لما يقارب عام تقريبًا أثبتت التحقيقات تعرض «مجمع نطنز» لهجوم سيبرانى، بأحد الأجيال الجديدة من فيروس «ستاكس نت» يمكن المهاجمين من تغيير جميع أنظمة الأجهزة التى تعمل إلكترونيًا، وبتلك التقنية الجديدة جرى اختراق المجمع الرئيسى لتخصيب اليورانيوم فى إيران، عبر زرع الفيروس من «الجدار الخلفى» لنظام التشغيل الخاص بشبكات الكمبيوتر، مما سمح بإحداث اختراق لدخول شبكات أنظمة الحاسبات الإلكترونية والرقابة فى هذه المنشآت. بتوصيف بسيط لنمط الخلل الذى يحدثه الفيروس عندما يتمكن من التسلل داخل هذا النسيج، أنه يتمكن من تسريع عمل الأجهزة لحدود تفوق طاقتها الآمنة فتنفجر، أو يقوم بتخفيض وتيرة عمل تلك الأجهزة وصولًا إلى تعطيلها كليًا. 

فى حالة «مجمع نطنز»؛ جرى زرع الفيروس فى «هاتف محمول» لأحد كبار العسكريين المتخصصين فى الشئون الإلكترونية، حيث أظهرت التحقيقات أن هاتفه كان مخترقًا بهذا الفيروس فى نسخته الجديدة. هذه النسخة المتطورة تستطيع تحديد مواقع الأجهزة بشكل دقيق، وترسل بياناتها التفصيلية إلى الأقمار الصناعية من خلال أى هاتف محمول ذكى، يحمله أى من الفنيين الذين يتطلب عملهم الاقتراب من الأجهزة لمسافات قريبة، وبالتالى يمكن لاحقًا التعامل معها بتوجيه صواريخ «كروز» مسيّرة لاستهدافها. الذى ربط بين الشخصية العسكرية المتخصص فى الشئون الإلكترونية وانفجار «مجمع نطنز»، أن هذا الشخص قتل فى حادث مماثل قبيل ما وقع فى المجمع بأيام، المثير أنه كان بـ«انفجار» أيضًا وقع فى مركز «سينا أطهر» الطبى وأودى بحياة ١٩ شخصًا حينئذ. هذا الشخص بطبيعة عمله تواجد فى «نطنز» ومن ثم يبدو أصيب بحالة مرضية استدعت دخوله إلى المركز الطبى الذى شهد انفجارًا، عللته السلطات الإيرانية حينها بتهالك أحد الأجهزة الطبية قبل أن تكتشف أن هاتف الشخصية العسكرية مخترق بالفيروس المذكور. 

يبدو أن الجانب الإسرائيلى من خلال هذا الفيروس تحصل على قدر كبير من المعلومات، قبل أن تتمكن السلطات الإيرانية من العمل على مسح الفيروس من كل الشبكات والأجهزة، وهو ما بدأته سريعًا بعد اكتشاف الاختراق. فبعد أيام من تفجير مركز «سينا أطهر» الطبى، نفذت إسرائيل الهجوم السيبرانى على «مجمع نطنز»، ثم الهجوم الجوى بمقاتلات «F 35» على «موقع بارشين» العسكرى النووى، فى ضربتين متتاليتين استهدفتا مخزون «غاز UF 6» المستخدم فى تخصيب اليورانيوم. فى هذا السياق، لم تقدم السلطات الإيرانية أى معلومات عن موقع بارشينو بل اكتفت وسائل الإعلام الإيرانية بإحالة الأمر إلى حريق شب فى محطة مدنية للطاقة بمدينة الأهواز جنوب غرب البلاد، مما تسبب حينها فى انقطاع جزئى للتيار الكهربائى. فقد كانت تلك المرحلة من الصراع لا تستوجب الكشف أو الاعتراف بالاصابات المؤثرة، التى يتكبدها كلا الطرفين وإيران بالطبع على وجه الخصوص. وهو ما لحقه سريعًا بالدخول إلى مرحلة الاغتيالات المتقدمة، التى كان أشهرها وأنجحها اغتيال العالم النووى الإيرانى «محسن فخرى زادة» عام ٢٠٢٠، الذى ظل وغيره من علماء المشروع الإيرانى على قائمة أهداف الموساد الإسرائيلى لسنوات طويلة. 

نقلة نوعية ربما يبدو أن جهاز الاستخبارات الإيرانى؛ تمكن من إنجازها وبالخصوص الأجهزة التابعة للحرس الثورى، الذى يحظى بدعم هائل من القيادة الإيرانية لخوض مثل تلك المعارك فى الظل وفى العلن. ففى غضون الإعداد لعملية الهجوم السيبرانى الأخير الذى «حرص» على الإعلان عنه وتبنيه، كان هناك إعلان مماثل من قيادة الحرس أنه أحبط عملية تخريبية معقدة كانت تستهدف «منشأة فوردو» النووية، بالقرب من مدينة «قم» جنوب العاصمة طهران، مؤكدًا نجاحه فى اعتقال جميع عناصر الخلية التى تأكد أنها متورطة فى التعاون مع الموساد الإسرائيلى. الأكثر إثارة ومما يدلل على شراسة وتسارع ما يجرى على تلك الساحة، أن إعلان الحرس جاء بعد «يوم واحد» من إعلان الأمن الإيرانى تفكيك «خلية تجسس»، تعمل لصالح إسرائيل فى محافظة «أذربيجان الغربية» شمال غرب إيران. وقد يكون هذا التصعيد المتبادل؛ من جانب إسرائيل محاولة لإثبات تفوقها فى الشرق الأوسط، حتى دون الدعم الأمريكى المنشغل الآن بإنجاز الاتفاق النووى مع طهران. فى حين اعتبرت إيران أن الفرصة مواتية الآن للضغط على إسرائيل، بتبنى استراتيجية الهجوم المباغت من أجل إرباكها واستنزاف طاقاتها، لا سيما وإعادة تموضع واسعة تجرى لكل الأطراف على خلفية الحرب المشتعلة فى أوكرانيا، وإيران ترى أن فرصًا وملفات عدة قد لاحت أخيرًا أمامها يمكن أن تستثمرها فى أوضاع جديدة لأقدامها ووزنها فى الإقليم، وفى علاقاتها ومصالحها مع الأطراف الرئيسية للعبة الدولية.