رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى أوكرانيا.. مَن صنع الفخ ولِمَن؟

وقف الجنرال المتقاعد «مارك هيرتلنج» أمام خريطة تفاعلية عبارة عن صور فضائية التقطت بالأقمار الصناعية، انصب معظمها على رصد الحشود العسكرية الروسية التى وصلت ضواحى العاصمة كييف، فى الطريق إلى قلبها، كما يعلن الجيش الروسى. كان هذا فى البرنامج الإخبارى الرئيسى لشبكة «CNN» الإخبارية الأمريكية، التى تقدم للمشاهدين والمتابعين من كل أنحاء العالم، ما يمكن أن يحدث خلال الـ٤٨ ساعة المقبلة فى إطار الصراع الروسى- الأوكرانى، والحلول المتاحة أمام الجيش الأوكرانى والأوكرانيين للتصدى للهجوم الروسى.

وذكر الجنرال الأمريكى؛ أنه قلق مما قد يحدث فى «الساعات الـ٤٨ المقبلة»، لأن روسيا تحاول ضرب أهداف بعيدة المدى، وهى تجلب منظومات مدفعياتها على مسافة تقترب إلى ٢٠ ميلًا من الأهداف الرئيسية، فى الوقت الذى لا يمكن للأوكرانيين استهدافها، لأنها موضوعة بحماية محكمة وخارج ساحات المعارك فى كل من «خاركيف» و«كييف» أيضًا. وأضاف المحلل العسكرى الأبرز للقناة الأمريكية أن الطريقة الروسية فى الحرب، ستعتمد على هجوم بشكل واسع تجاه أهداف مدنية، وفق ما يرى أن الجيش الروسى لم يسجل نجاحات تذكر عندما نفذ هجمات ضد الجيش الأوكرانى مباشرة. لذا فإنهم سيشنون حملة ترهيب تحت تكتيكات الأرض المحروقة. هذا مما يتداول فى الولايات المتحدة، ويعبر إلى حد بعيد عن رؤيتها لمجريات الأحداث العسكرية على الأرض، لكن مما يجعل الأمر أكثر تعمقًا فى تلك الرؤية، هو الوقوف مليًا أمام السؤال السابق لتلك الأحداث، بالبحث عن صناع المشهد الحقيقيين، وقد بدأت الشكوك تضرب جنبات الأحداث بصورة تثير القلق ويكتنفها الكثير من الغموض، حول مَن الذى تسبب بتصاعد الأمر إلى هذا الحد، حتى صار الحديث عن السلاح النووى والتأهب الاستراتيجى لقوات مكلفة بالردع، من الأخبار والقرارات التى تجرى متابعتها وسط غيرها من مفردات التصعيد الذى لم يتوقف إلى الآن. 

فى خطوات ليست ببعيدة كثيرًا إلى الوراء، كان هناك تحذير من الرئيس الأمريكى جو بايدن قرر فيه أن هناك لائحة قاسية غير مسبوقة من العقوبات، ستمثل ردًا جاهزًا فى حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، إلا أنه أكد فى الوقت ذاته أن واشنطن لن تتدخل عسكريًا ضد موسكو، كما استبعد إرسال قوات أمريكية للدفاع عن أوكرانيا. هذه التصريحات تثير اليوم التساؤلات؛ حول ما إذا كان الرئيس الأمريكى على هذا النحو أعطى روسيا الضوء الأخضر لغزو أوكرانيا، واليوم بعد تدافع الأحداث على نحو ما جرى قامت مجموعة من الأوكرانيين بالتفتيش وراء أحاديث أخرى لبايدن ليخرجوا له تصريحًا فى يناير الماضى، مثّل صدمة حقيقية لهم عندما ذكر فيه أن «توغلًا بسيطًا» من جانب روسيا داخل أوكرانيا، قد لا يكون ثمنه باهظًا عكس الموقف من الغزو الشامل، مما صحبه تفسير أوكرانى بأن تصريحًا من هذا النوع، لا يمثل سوى إتاحة واضحة للرئيس الروسى فلاديمير بوتين لدخول أوكرانيا. ويرى المتبنون لهذا التفسير؛ أن واشنطن وهى لا تريد الدخول فى صدام عسكرى مع موسكو، إنما ذهبت إلى توريطها فى غزو أوكرانيا لإيقاعها فى فخ «العقوبات» لخنقها اقتصاديًا، والعمل على دق إسفين بينها وأوروبا خاصة ألمانيا، التى تتوسع منذ سنوات فى اعتمادها على الغاز الروسى. وتتابع الأحداث بعد ذلك يميل لحد كبير تجاه تلك الفرضية، فبعد ساعات من إطلاق روسيا عمليتها العسكرية وتوغلها فى أوكرانيا، توالت الوعود بالمساعدات العسكرية والدفاعية من المعسكر الغربى إلى كييف، وانهالت حزم العقوبات تباعًا على النشاطات الروسية وعلى بوتين شخصيًا، كان آخرها عزل مجموعة من المصارف الروسية عن «نظام سويفت» المالى للتداول المعلوماتى المصرفى.

أما تفسير فلاديمير بوتين لدوافع الولايات المتحدة فى صناعة تلك الأزمة، كونه يحملها وحدها مسئولية هذا التصعيد المحموم، فهو يرى أن واشنطن ليست جادة فى قلقها بشأن أمن أوكرانيا، فهم على أقصى تقدير ربما يفكرون بها كمجرد هامش صغير على جانب حقيقة الصراع. الذى يعتبر هدفه الرئيسى هو احتواء تطور روسيا ونموها، وتمثل أوكرانيا مجرد أداة وصول إلى هذا الهدف، حيث يرى القيام بذلك يجرى بطرق مختلفة منها جر روسيا وجيرانها إلى بعض النزاعات المسلحة، أو إجبار حلفائها فى أوروبا على فرض عقوبات صارمة عليها، مثلما تحشد الولايات المتحدة اليوم. ويقدر الرئيس الروسى أن عنوان «الطاقة» هو الأبرز فى خلفية الأزمة الأخيرة، باعتبار فرض العقوبات على مشروع خط أنابيب «نورد ستريم ٢» لنقل الغاز الروسى إلى ألمانيا، مثّل هدفًا استراتيجيًا يحقق لواشنطن مبتغاها الذى اتفقت عليه إدارتان متعاقبتان، جمهورية وديمقراطية، فكلتاهما ترى فى المشروع تهديدًا للأمن الأوروبى، ومن ثمّ الأمن الغربى الجماعى من وجهة النظر الأمريكية.

خبراء الطاقة الروس وبعض من الأوروبيين؛ يرون ما ذهب إليه الرئيس بوتين، لا سيما مع ربط المحاولات الأمريكية لإفشال مشروع «نورد ستريم ٢»، برغبتها فى زيادة حصة صادراتها من الغاز الطبيعى المسال الذى لا يجذب أوروبا بسبب تكاليفه الباهظة. بل ستمثل اندلاع تلك الأحداث، فرصة ثمينة للاستفادة من ارتفاع مؤكد لأسعار النفط والغاز، فالولايات المتحدة من كبار مصدرى الطاقة التى ستستحوذ بعد العقوبات وإزاحة روسيا، على نصيب الأسد المحسوب بدقة فى شركات وول ستريت. فهؤلاء وضعوا أمامهم بعض الأرقام التى أقلقتهم بشدة، فوفق معطيات بداية فبراير ٢٠٢٢ نمت صادرات الغاز الروسى عن العام الماضى، بمقدار ٢.١ مرة، حيث بلغت «٥٤.٢ مليار» دولار، مقارنة بنفس الشهر من العام ٢٠٢٠، حيث كانت «٢٥.٧ مليار» دولار فقط. هذه مقارنة بسيطة ومحدودة بعامين فقط رغم القفزة المثيرة للانتباه والاهتمام، لكن الأكثر إثارة هو ارتفاع حصة إمدادات الغاز الطبيعى الروسى إلى أوروبا خلال «١٠ سنوات» من ٤٠٪ إلى ٥٥٪، فى حين زادت إمدادات النفط فى نفس الفترة من ٣٨٪ إلى ٤٨٪. ولهذا حتى بعد بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، أعادت واشنطن التأكيد على أنها لن ترسل قوات للقتال ضد روسيا، وكأنها تريد دفع موسكو أكثر إلى نفق مظلم وحرب استنزاف تنشغل بها عن هذه القفزات الاقتصادية. 

من الناحية العسكرية رفضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية إعطاء روسيا ضمانات، بأن أوكرانيا لن تنضم لحلف «الناتو»، الأمر الذى فجر الأزمة ودفع موسكو لشن عمليتها ضد كييف، فى الوقت الذى لم تتخذ الدول الغربية بالمقابل أى خطوات لضم أوكرانيا للحلف أو الاتحاد الأوروبى، حيث يلزمهم ذلك بالدفاع عنها والتدخل عسكريًا لحمايتها من التدخل الروسى، بل لم تمدها سوى بالأسلحة الدفاعية، وهو ما يحقق هدفًا واحدًا يتمثل فى إطالة السقف الزمنى للأزمة ويستنزف قوة روسيا. وهذه معطيات تفتح الباب أمام تساؤلات؛ من نوع صانع الفخ هل هو أمريكى بامتياز، خاصة وهو مصحوب بمَن المستهدف: هل هى روسيا أم أوروبا، أم كلاهما معًا؟.