رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الأزمة الأوكرانية.. هل هناك صدام بأكثر مما هو بادٍ للعيان؟

بعد لقاء الرئيس الروسى فلاديمير بوتين المستشار الألمانى أولاف شولتس، بدا الأمر وقد لاح بعض إشارات خفوت حدة الأزمة، التى ظلت طوال أسابيع مضت على وتيرة التصاعد والسخونة، وسط تدافع وصل لحد تحديد موعد حرب وشيكة بين روسيا وأوكرانيا.

أولى تلك الإشارات أن سقف الحديث بلور نفسه حول إقليم «دونباس» فى شرق أوكرانيا، متناولًا مصيره وموقف روسيا الرسمى من اعتباره إقليمًا انفصاليًا، لم تعترف أى من دول العالم به، ولا حتى موسكو التى تدعم صراعه العسكرى مع نظام كييف منذ سنوات.

وإلى أن ينجلى ضباب المشهد ويصل إلى درجة استقرار مقبولة، تساعد فى قراءة ما استطاعت روسيا تحقيقه من تلك الفورة غير المفاجئة، ما يعد إعادة لترتيب صفوف المعسكر الغربى ومدى استقرار قدميه على الأرض، باعتبار هذا ما بدأ كلاهما يسعى لتحقيقه خلال أيام الأزمة السائلة حتى اللحظة..

إلى أن نصل إلى تلك المحطة، قد يبدو مفيدًا الاطلاع على آراء وتحليلات من هم فى قلب الأحداث، وصانعى مكونات المشهد الذى يتابعه العالم أجمع، وهو ما قدم فيه مركز الدراسات العربية الأوراسية إسهامًا متميزًا، باستطلاعه آراء خبراء متميزين فى مجال العلوم السياسية والاستراتيجية، فى كل من روسيا وأوكرانيا.

وهذا مما يجعل التعمق داخل تلك الرؤى يساعد فى عبور الفخاخ والألغام الإعلامية السريعة، التى تزرع عادة فى طريق أزمات متشابكة ومعقدة على هذا النحو.

لذلك كى تصبح الصورة أكثر نقاءً ووضوحًا، ستكون البداية هذه المرة مع أبرز الخبراء الروس وأرفعهم مقامًا البروفيسور «ألكسندر دوغين»، وهو فيلسوف وعالم سياسى واجتماعى روسى، وشخصية عامة توصف بأنها الأقرب إلى عقل وقلب الرئيس فلاديمير بوتين.

يرى البروفيسور الروسى، الأستاذ ورئيس قسم علم اجتماع العلاقات الدولية فى كلية علم الاجتماع بجامعة موسكو الحكومية، وزعيم الحركة الأوراسية العالمية ومؤلف أحد أهم الكتب الروسية فى الفلسفة السياسية، بعنوان طويل لافت «الخلاص من الغرب.. الأوراسية، الحضارات الأرضية مقابل الحضارات البحرية والأطلسية»- أن الأزمة الحالية فى علاقات روسيا مع الغرب ليست مرتبطة بالغاز، ولا بالاقتصاد ككل.

فمحاولات شرح هذا الصراع السياسى تجعلنا نتعامل مع عدة عمليات عميقة، نتجت عنها تحولات حضارية وجيوسياسية، فى حين أن الاقتصاد والطاقة من الملحقات الثانوية. 

ويرى من وجهة النظر الحضارية أن الأمر كله يتعلق بأيديولوجية الديمقراطيين من إدارة بايدن، هذا التحالف المكون من دعاة العولمة المتطرفين مع المحافظين الجدد والصقور الليبراليين.

إنهم يرون أمام أعينهم بوادر انهيار العالم الأحادى القطب، ومعه الهيمنة الغربية، وهم على استعداد لفعل أى شىء، حتى لو وصل الأمر إلى قيام حرب عالمية ثالثة من أجل منع هذا الانهيار.

ويرى دوغين أن لدعاة العولمة المتطرفين كثيرًا من الأعداء فى داخل معسكرهم بمن فى ذلك دونالد ترامب ومن هم على شاكلته، لكن تبقى قوتان فقط لديهما القدرة على تحدى تلك الهيمنة الغربية حقًا؛ هما روسيا والصين باعتبار الأولى عملاقًا عسكريًا والثانية عملاقًا اقتصاديًا وكلتاهما تتكامل الآن، ولديه الأهداف المشتركة نفسها فى هذه المواجهة. 

عن الأزمة الجارية يفسرها دوغين بأن الرئيس الأمريكى بايدن يدفع خلالها روسيا بعيدًا عن أوروبا التى تسعى جاهدة من أجل بناء سياسة مستقلة خاصة بها. ومن هنا جاءت المشكلة الأوكرانية والتصعيد الأخير فى «دونباس»، عبر شيطنة روسيا وبوتين واتهامهما بالاستعداد لغزو أوكرانيا، وعلى الرغم من عدم وجود حقيقة يمكن الاستناد إليها لهذا الغزو المزعوم، فإن واشنطن تتصرف كما لو كان الغزو قد حدث بالفعل.

من هنا جاء التهديد بالعقوبات، وحتى الأعمال العسكرية الوقائية المحتملة فى دونباس، لذلك تظل الخلافات بشأن الغاز وخط «نورد ستريم ٢» مجرد أدوات تخدم فقط الوسائل التقنية لحرب الجغرافيا السياسية الحالية. 

كما يرى أن الشىء نفسه ينطبق على الصين، التى أنشأ بايدن لأجلها «تحالف أوكوس» المناهض لها مع الدول الأنجلوسكسونية أستراليا وبريطانيا، وتحالفًا آخر آسيويًا هو الحوار الأمنى الرباعى «كواد» مع اليابان والهند.

كل هذا الصراع مبنى على أدبيات الجغرافيا السياسية الكلاسيكية، وهو تكرار حرفى تقريبًا للمشروعات الأطلسية التى بدأت للمفكر البريطانى هالفورد ماكندر، وصولًا إلى مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق زبغنيو بريجينسكى.

لذلك يفسر ألكسندر دوغين ما يجرى أنه فى مقابل حرب الجغرافيا السياسية الغربية، ترد روسيا بشكل متماثل من وجهة نظر الجغرافيا السياسية الأوراسية، معارضة العولمة القسرية والأحادية القطبية، والليبرالية بقيمها الغربية الجديدة، كذلك تطرح نظرية منظومة القيم الحضارية البديلة، وفى ذلك كله تلقى دعمًا صينيًا بوجه عام. 

لهذا يرى أن الأسباب الرئيسية للأزمة الدولية الحالية التى تتطور لتشكل حربًا باردة ثانية، مع احتمال تصاعدها فى ظل ظروف معينة لتشعل حربًا إقليمية «ساخنة» تمامًا، وقد تصل إلى حرب عالمية- ليست اقتصادية أو سياسية؛ لكنها وجودية أيضًا.

تلك التصورات الذاتية لمولدات التوتر بشأن «إذلال» روسيا أو تعظيمها، وبقدر ما يمكن للمرء أن يقيم الوضع من خلال تصريحات الرئيس الروسى وأقواله وأفعاله، فإنه يعتزم تصحيح هذه الأخطاء و«المظالم» التاريخية فى أقرب وقت ممكن. من خلال استعادة نظام الأمن الدولى الثنائى القطب «أو الثلاثى الأقطاب: الولايات المتحدة، وروسيا، والصين» وترسيخه عبر اتفاقية «يالطا ٢». 

وعبر إحياء سياسة «الخطوط الحمراء» ومناطق النفوذ، وتصفية حلف الناتو أو تجميده، من أجل «إعادة توحيد الشعب الروسى» الذى يعد الأوكران والبيلاروس جزءًا منه أيضًا، وتصحيح «أخطاء التاريخ» المسماة «أوكرانيا» و«بيلاروس»، عبر إقامة مساحة جيوسياسية وجغرافية واقتصادية واحدة على أراضى الاتحاد السوفيتى السابق «إن أمكن، دولة واحدة».

لذلك، فالأمر لا يقتصر على محاولة إجبار الغرب على الاعتراف بشبه جزيرة القرم كجزء من روسيا، ولا حتى عن تحول الاتحاد الروسى إلى الإمبراطورية الروسية أو الاتحاد السوفيتى من الناحية الجغرافية- نحن نتحدث عن إعادة هيكلة كاملة للعالم، ونظام الأمن العالمى بكامله، بناء على نماذج ومبادئ وقيم جديدة «أكثر دقة وتحديثًا». 

هذه المرة استغرقنا مع أهم المفكرين الروس الموجودين حاليًا على المسرح الفكرى، لما يجرى العمل عليه فى داخل الكرملين، والأسبوع المقبل بمشيئة الله.. نستأنف مع رؤية أهم وأكبر المحللين والمفكرين الأوكرانيين، كيف يرون المشهد وماذا أعدوا له، وهل فعليًا يتجاوبون مع الطرح الروسى الذى يصفهم.. بـ«الخطأ التاريخى».