رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تمصير الأعمال الأجنبية بين إثراء الفن وتهديد قيم المجتمع

نجيب الريحاني
نجيب الريحاني

 

منذ نهايات القرن التاسع عشر حتى الأمس القريب، تثور قضية اقتباس الأعمال الفنية الأجنبية ووضعها فى قالب مصرى، وهل يعد ذلك سرقة أم اقتباسًا، وهل يمثل هذا التمصير لعمل أجنبى تهديدًا لقيمنا أم هو انفتاح على العالم الواسع.. وربما لا يعرف كثيرون أن كل المسرحيات التى قدمها مسرحيون كبار مثل يوسف وهبى، ونجيب الريحانى، وغيرهما، كانت مقتبسة من أعمال غربية، وكانت معظمها مسرحيات فرنسية. 

 

الاقتباس ظاهرة متجذرة فى تاريخ المسرح، الرومان- مثلًا- بعد انتصارهم على الإغريق فى الحرب البونية عام ٢٤١ ق. م نقلوا عنهم فن المسرح، وبدأ المسرح الرومانى بترجمة المسرحيات من اليونانية إلى اللاتينية، وتقديمها كما هى.

ثم جاءت مرحلة إضفاء الروح الرومانية على المسرحيات اليونانية، مثلًا الكاتب سينيكاالرومانى تأثر بمؤلفى التراچيديا فى اليونان، مثل إيسخيلوس ويوربيديس وسوفوكليس، وأضاف على المسرحيات فلسفة الرواقيين، وهناك الكاتب الرومانى بلاوتوس، الذى أثر فى شكسبير وموليير، هو أيضًا تأثر بمؤلفى الكوميديا اليونانية، مثل أرستوفانيس وميناندر.

وفى عصر النهصة، تأثر الكاتب الإيطالى كارلو جولدونى بموليير الفرنسى، وهكذا الشعوب، تتأثر بفنون بعضها البعض على مر التاريخ ، لكن الأهم من أن تستلهم من فنون الآخرين هو أن تضع بصمتك وهويتك داخل الفن.

وعرفت مصر المسرح  منذ فجر التاريخ، حيث المسرحية الأوزيرية المستلهمة من أسطورة إيزيس وأوزوريس، لكنها عرفت المسرح بشكله الأوروبى عن طريق الحملة الفرنسية، فتأثر المصريون بالمسرح الفرنسى واقتبسوا عنه.

كل هذه القضايا هى محور كتاب «التمصير فى المسرح المصرى: من يعقوب صنوع ١٨٧٠ إلى الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥»، الذى صدر عن الهيئة العامة للكتاب عام ٢٠١٩، للدكتورة نجوى عانوس، أستاذة اللغة العربية  بكلية الآداب- جامعة الزقازيق، والباحثة فى تراث المسرح المصرى، ويقع فى ٢٠٤ صفحات، وفيه لم تكتف الكاتبة بذكر المسرحيات، بل شرحت السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بهذه المسرحيات، طبقًا لنظرية الانعكاس التى وضعها جورج لوكاش، الذى يؤكد من خلالها أن المسرح مرآة للمجتمع. تبدأ الدراسة بتمهيد توضح فيه الكاتبة أسباب تأثر المسرح المصرى بالفرنسى، ودور الصحافة فى ذلك، وتناولت مفهوم الترجمة والتعريب والتمصير فى أواخر القرن الـ١٩، ثم فترة ثورة ١٩١٩ وارتباط التمصير بالقومية المصرية. وجاء الفصل الأول بعنوان «عرض تاريخى للمسرحيات الممصرة»، تتحدث فيه عن المسرحيات الممصرة ونبذة عنها وعن الأصل الفرنسى لها، مستعينة بنصوص من مركز المسرح والموسيقى.

الدراسة تشمل تجربة التمصير عند: يعقوب صنوع ومحمد عثمان جلال وعزيز عيد وأمين صدقى ونجيب الريحانى وبديع خيرى ويوسف وهبى وعباس علام وتوفيق الحكيم ومحمد يونس القاضى وإبراهيم رمزى.

كما تعرض آراء النقاد المعاصرين فى عروض هذه المسرحيات، وأسباب زيادة الاهتمام بالترجمة والتمصير من مسرحيات كوميدية فى فترة الحرب العالمية الأولى، وأشهر الكتاب الفرنسيين الذين أثروا فى التمصير، وتوضح-أيضًا- بنية المجتمع المصرى فى تلك الفترة وتأثير ذلك على جمهور المسرح، وترصد الهجوم الشديد الذى تعرضت له بعض المسرحيات المعروضة آنذاك، وكان الهجوم من منطلق أخلاقى، خصوصًا أنه فى تلك الفترة كان يتم النظر للمسرح على أنه مدرسة لتعليم الأخلاق والقيم ومساهم فى الإصلاح وليس مجرد تسلية.

وتطرح قضية الاقتباس وآراء النقاد فيها ما بين مؤيد ومعارض، والبعض يرى أنها سرقة أدبية، والبعض الآخر يرى أنه لا عيب فى الاقتباس والتمصير. 

وفى الفصل الثانى «ظواهر التمصير فى المسرح من ١٨٧٠ إلى الحرب العالمية الثانية» جرى رصد نحو ١٧ ظاهرة مشتركة فى كل المسرحيات الممصرة بداية من اختيار مسرحيات فرنسية تتناسب مع البيئة المصرية، وتغيير أسماء الشخصيات والأماكن إلى المصرية، وإبداع شخصيات من البيئة الشعبية والمتوسطة وغيرها من الظواهر، وتقدم دراسة شاملة وتحليلية للمسرحيات ومقارنتها بالأصل الفرنسى والتعديلات التى تمت والقضايا التى تمت مناقشتها، ويتضح من الكتاب تفاعل المؤلفين المصريين مع قضايا عصرهم ومشكلات مجتمعهم، ولكنها تعيب على أن الكتاب لم يذكروا أسماء المسرحيات الأصلية التى اعتمدوا عليها، ما جعل الناقدة روزا اليوسف تعتبر ذلك سرقة أدبية وليس مجرد اقتباس.

الفصل الثالث بعنوان «تمصير الأوبريت والأوبرا»، وفيه ترصد الكاتبة أهم الأعمال التى تم تمصيرها، مثل أوبريت «المدينة المسحورة» للكاتب محمد عبدالقدوس، ومصّرها عن مسرحية غنائية للكاتب ماردوس نيبونى، وهى مقتبسة من حكاية «معروف الإسكافى» فى «ليالى ألف ليلة وليلة»، وأوبريت «على بابا» لتوفيق الحكيم، عن مسرحية لألبرت فانلو ووليام بوسناك، وكتب لها الأزجال بديع خيرى، وجرى عرضها فى مسرح الأزبكية ١٩٢٦.

واعتمد «الحكيم» على رسم شخصيات مصرية، ويحتوى النص على إشارات لتمجيد المصرى واعتمد على الفكاهة اللفظية، وعادات شعبية مثل قذف العروسين بالملح درءًا للحسد، وترديد عدد خمسة، وحذف بعض المشاهد لاعتبارات دينية واجتماعية وفنية، وإضافة الأمثال والتعبيرات الشعبية. وتحلل الكاتبة «أوبريت شهرزاد»، الذى مصّره عزيز عيد، وكتب أغانيه بيرم التونسى ولحنه سيد درويش، ويعبر هذا الأوبريت عن مرحلة تأثر المؤلفين المصريين بالرومانسية التى ارتبطت بالشعور بالهزيمة العربية وخسائر الحرب العالمية الأولى، وسيطرة الأجانب على مناصب عليا فى الجيش، ما انعكس فى الأوبريت، كان التمصير فى المسرح المصرى مرتبطًا بسياق اجتماعى وثقافى واقتصادى، ارتبط بأحداث محورية مثل الاحتلال الفرنسى والإنجليزى والتركى والحربين العالميتين الأولى والثانية، وإذ إنه لا يوجد تراث مسرحى مصرى، لجأ المؤلفون المصريون إلى الاقتباس من المسرح الفرنسى، لكن السؤال: لماذا يتم التمصير والاقتباس حتى الآن بطريقة فجة، على الرغم أننا نملك مؤلفين مبدعين قادرين على تقديم إبداع مصرى خالص؟.