رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النازية تعود إلى القارة السوداء.. الفن والثقافة السر

 

ضجيج، تباين في المواقف، اتهامات مختلفة المصادر، ذلك ما يحدث في القارة العجوز، بعدما تقرر إقامة أول نشاط يقدم الزمان النازي على طبق من فضة، فقد رافق معرض "غير مسبوق" حقيقة، كتاب نقدي، مع مقدمة تاريخية.. والغريب أن العاصمة النمساوية " فيينا"، كانت مسرحًا لعرض نوادر خطيرة وأعمال فنية متباينة الاتجاهات، بين ملصقات سياسية نازية والعديد من الصور الفوتوغرافية، وكل ذلك، ذكرنا بليالي الأنس في فيينا، قبيل وإبان وبعد ويلات الحقبة النازية. 
* العنوان يلخص الحدث:
معرض للرسومات والتماثيل النازية للفنانين النمساويين في فيينا، بحسب رواية شبكة "يورونيوز"  المدعوم من الاتحاد الأوروبي، لهذا  تعمدت الشبكة، أن تنحاز إلى خبر أعدته وكالة " أ. ف. ب"، بحذر وترقب، ولفتت إلى هذا المد والزخم في إعادة النظر في تراث الأمة الأوروبية بكل ميراث النازية. 
 المعروضات، حالة موقف، والعنوان الحدث، يشير إلى أنها مجرد جرأة أن تعرض النمسا وفي فيينا  تحديدًا ما كان خفيًا في المستودعات والغرف السوداء.. والتي ترى النور حتى أبريل، أعمالًا فنّية نازية تشمل منحوتات نيوكلاسيكية ولوحات رسمية عليها ختم الصليب المعقوف بعدما تنكّرت النمسا طويلًا لهذا الإرث الثقيل، وهذا وصف الإعلام الفرنسي والأوروبي للحالة.

*  ما قصة الانتظام في الصف؟

متحف  فيينا البلدي، قدم دعوة :"فيينا تنتظم في الصف"، متقدمًا مسلطًا الأضواء، بطريقة  غير مسبوقة على السياسة والعمل الثقافي والفني الموجه من آلة الإعلام النازي  لموطن، مسقط رأس "أدولف هتلر" الذي  اختار  ألمانيا النازية وسافر  إلى أراضيها سنة 1938، وفيها أسس مشروعه لغزو العالم، في حروب أكلت الأخضر واليابس. 
 لعل أخطر ما في  قصة الانتظام في الصف (.....)، ذلك الموروث  من الملصقات السياسية، ذات الصبغة الإعلامية، واللوحات وأعمال الصلصال النحت الصخري، وهي في المخازن، أصلًا ممنوع طرحها في الأنشطة الثقافية أو السياسية، إلا أن قرار متحف فيينا، تجاوز أزمات المجتمع السياسي، وقرر عرضها وفق رؤية إشكالية، "مرقمة" ومن دون ترتيبها بالكامل، كما لو كانت معدة للعرض في أسواق الخردوات واللقى الأثرية، وهو تحايل على فكرة أنها تعود إلى زمان محو الشخصية الإنسانية باتجاه النازية، وهذا يعني، تقديس لحظة إعادتها إلى المستودعات والغرف المنسية. 
* شاهد على التاريخ

 المؤرخة والناقدة "إنغريد هولزشوه"، من القيّمين على المشروع الذي  كشفت عنه  بعد أربع سنوات من التحضير والأبحاث، تقول: "كان واضحًا لنا أنّ هذا العمل لم يكن عرضًا فنيًا كلاسيكيًا"؛ ذلك أنّ المعرض كان عليه "أن يكون فوضويًا"، لتجنب "إعطاء هالة" للمجموعة المعروضة، وبالطبع هذا ما فشل، فالعرض حقق طفرة في الجمهور، برغم الحظر جراء تفشي فيروس كورونا. 
 

 في التاريخ الاجتماعي والسياسي الأوروبي، تزامنت نزعات الحداثة، مع ظهور ماكينة الإعلام النازي التي رفضت ذلك، وهي تحولات  أقلقت النازية بسبب سرعة انتشارها والولع السريع بالتجريبية، والتجريدية، والشكلانية والبوب آرت، الذي حصر العمل بالفن، طول الحروب، فسادت تيارات نازية لم تفسر على أنها نتيجة نمو طبيعي لعناصر الفن وتجارب الفنانين بقدر ما كان نوعًا من المؤامرة على سلطة الرايخ، مؤامرة يقودها أعداء جمهورية الرايخ ويستخدمون هذه الوسيلة الناعمة، بحسب الكاتب طاهر علوان، الذي قال إن الأمر استوجب التصدي لها ومقاومتها من خلال إشاعة ما عرف بالفن البديل، الذي يقاوم ذلك التنوع في الفن المنحط الذي انطوت عليه تجارب الحداثة الأوروبية المتنوعة والعميقة.

 متحف فيينا، أعادنا إلى فهم مجريات التاريخ، ودرس وقائع تلك الاحتفالية النازية بإدانة الفن المنحط، عندما كان لسياسة "هيرمان غورينغ" ، رئيس وزراء هتلر الذي أنجز المهمة، وليتحف الفوهرر بأكبر حشد للأعمال المنحطة التي تم جلبها بكل ما تطاله أيدي النازية،  طبعًا بالسرقات من متاحف ومعارض أوروبا، لكي لا يبقى أدنى شك فيما هو مقصود بتلك الأعمال الرديئة.
 الحدث، زين له أن يكون فوضويًا، معروضات  مكتظة وتحت إضاءة سيئة، فضلًا عن تعمد عدم تأطير كثير منها لغرض التشويش على ذهن المتلقين، ولكي يشعروا بلا جدوى تلك الفوضى وصعوبة أن تفهم على أنها نوع من الفن، إن لم تكن فوضى حقيقة وأعمالًا عبثية كما أراد المنظمون، وهي تجربة سابقة تعود إلى العام 2015 في بلجيكا.

حان لـ"مواجهة التاريخ"،  ترى "هولزشوه" أنّ "الثغرات التي يتعيّن سدّها لا تزال كثيرة"، في حين أنّ القانون النمساوي يعاقب بشدة أي طرف يمجّد النازية.

 تاريخيًا: ضمّت النمسا إلى ألمانيا على يد الحكومة النازية في 12 مارس 1938، سيطرت النازية، النظام، والواقع والرؤية، على السياسة الثقافية بهدف جعلها "منسجمة مع رؤيته الأيديولوجية والعنصرية". وكان على الفنانين التسجيل لدى هيئة وصاية نازية كانت تُسمى "غرفة الفنون الجميلة" ومهمتها التأكد من أنّ العمل الفنّي يتوافق مع الشرائع التي تمليها برلين.

 شبكة" يورونيوز"، أعادت نبش التاريخ، وقالت: قلة من النسماويين يعرفون هوية الثلاثة آلاف عضو في هذه الجمعية الذين وافقوا على الحلول محل المبدعين اليهود والطليعيين لخدمة أيديولوجية قاتلة.

 لهذا، تتابع الأدوات الإعلامية التي اشتغلت على الحدث لتؤشر على بعض التزييف، فلم تغيّر الأعمال المعروضة تاريخ الفنّ، ففي إحدى اللوحات ترسم هيرتا كاراسيك سترزيغوفسكي بواقعية فلاحة صغيرة، أما إيغو بوتشه فيخلّد في بعض لوحاته الزيتية دخول هتلر إلى فيينا. وبالتالي، كان ينجز الفنانون أعمالهم مستجيبين لحاجات الدعاية السياسية النازية بحماس وإخلاص.

 النمسا، وثقت الحدث، برغم المعارضة، ووضع كتاب، أكبر من كونه كتيّب المعرض، ويقع في 300 صفحة، وهي لم تنتبه إلى أن التاريخ الحضاري، والثقافي، والاجتماعي، لم يتجاوز نسيان النازية، فقد عاش الكتاب والفنانون ودور النشر، حقيقة وحشية؛ أنّ من رفض الامتثال للقواعد النازية الجديدة اضطر إلى الفرار أو أُرسل إلى معسكر اعتقال، وبرغم ذلك، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، العام 1945،  تم وضع أرشيفات لآثار هذا التيار داخل قبو. وقدمت النمسا نفسها كضحية للنازية. ولم يُنفّذ أي عمل لإحياء الذاكرة حتى نهاية الثمانينيات.


الحدث، المعرض، هذه العودة إلى النازية، أقلقت القارة العجوز، في ظل أزمات سياسية وبيئية ونزاعات، وذكرت الجمهور النمساوي والأوروبي بما حدث عندما شارك حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف الذي أسسه نازيون سابقون، في الحكومة، حرص على إظهار حسن نيّة من خلال دعم جميع المبادرات لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست.
 ما بين الالتزام والخوف، يرى الأوروبي، ما يقال عندما يشاهد عشرات الملصقات السياسية والتمثيل التي مجدت هتلر والنازية، يشرب إبان الخروج من متحف فيينا، يتألم ويبحث عن ساندويتش هوت دوج. 
 ربما يغني: وداعًا للنازية! 
 الكثير من الشباب الأوروبي، يستمع إلى مقاطع من الأغاني، التي تتحدث عن كيفية احتفال النازيين الجدد بيوم ميلاد هتلر، ومنها أغاني، "أورسولا فون دير لاين"، التي غنت لوداع  الجيش الألماني على أنغام جنائية. 
 أوروبا تتخاذل، تنبش ما جعل تاريخها في الغرف السوداء.