رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حُماةَ اللغة وسدنتَها.. لكمُ التحيةَ فى يومها


يحتفل العالم في الثامن عشر من ديسمبر في كل عام باليوم العالميّ للغة العربية، وهو اليوم ذاته من عام 1973 الذي قررت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتماد العربية ضمن لغات العمل الرسمية في المنظمة العالمية، وقد جرت العادة في هذه المناسبة من كل عام أن يتم اختيار قضية خاصة بأمور اللغة كموضوع للاحتفالية، وعلى هذا فلا تتفاجأ حين تتابع على مدار اليوم في عدد كبير من برامج الإذاعة المسموعة والمرئية مَن يتحدث عن موضوع واحد هو "اللغة العربية والتواصل الحضاري"، وهو الموضوع الذي اختارته "اليونسكو" ليكون هو محور الاهتمام هذا العام، فاللغة العربية لا تزال لغةً حية قادرة على البقاء في عالم يتسم بالرقمنة والتعددية اللغوية.
وبعيدًا عن تلك المحاضرات الأكاديمية أو الخطب العصماء التي يمكن للمتحدثين صياغتها في الندوات أو عبر الميكروفونات فإننا نستطيع التأكيد على أن اللغة العربية ستظل لغة قادرة على التطور، وكما شرف الحرف العربي بأن يكون هو لغة القرآن الكريم، فإنه سيبقى سلسًا مطواعًا، والدليل ببساطة تجدونه في هذه الفقرة التي تقرأونها الآن، فقد لجأت لاستخدام مفردتين أُدخلتا إلى اللغة العربية من أصول أجنبية فاستوعبتهما لغتنا الجميلة.
فكلمة "أكاديمية" وكما يعرفها المعجم الكبير الصادر عن مجمع اللغة العربية هي: مدرسة أفلاطون، كانت تقوم في حدائق بالقرب من أثينا تسمى حدائق أكاديموس وهو بطل أسطوري، فهي أقدم مدرسة فلسفية أسسها أفلاطون عام 387 ق.م درس فيها الرياضيات والفلسفة، وكتب على بابها: من لم يكن عالمًا بالرياضيات فلا يدخل علينا وقام على أمرها تلاميذه من بعده، كما أوردت في ذات الفقرة أيضًا كلمة "ميكروفون" التي يمكن تعريفها بأي من المفردات الآتية: المِصْدَح أو المِصْوات أو المِهْتاف أو اللاقط الصوتي.
هنا تجدر الإشارة إلى أن التعريب- كما ذكرت اللبنانية السيدة أمل الحسيني في ورقة عمل حول اللغة العربية وتعريب الكلمات المستعارة- هو ابتداع كلمات عربية لتعبر عن مصطلحات موجودة بلغات أخرى وليس لها تسمية عربية، ويتم التعريب إما بالشكل العشوائي الذي يؤدي إلى ابتداع المجتمع أو نحته مصطلحًا جديدًا، وإما أن يتم بطريقة ممنهجة عن طريق مجامع اللغة العربية، والعرب في هذا العصر معنيون بنقل ألفاظ الحضارة الأجنبية إلى لغتهم ترجمة وتعريبًا، لتكون أداة طيّعة في التعبيرعن دقائق العلوم وآفاق التقنيات.
وأنا لا أجد غضاضة في تعريب بعض المفردات، وإن كان هذا دليلًا على تراجعنا الحضاري قياسًا على ما كان يحدث من اقتباس اللغات الأجنبية مفردات عربية أُدخلت عليها والقائمة طويلة إذا ما حاولنا الاستشهاد على ذلك بالأمثلة.
أما مسألة تعريب العلوم، والتي تمت في بعض المجتمعات العربية، فهذا أمر لا أحبذه ولا أفضله وأرى فيه نوعًا من الاستسلام لتخلفنا الحضاري الذي يعكسه واقعنا المعاصر، فالأولى بنا أن نقدم للإنسانية منتجًا حضاريًا وحينها سنفرض على الآخر- وبلغتنا- هذا النتاج باسمه ولفظه حين يحتاج إليه ويضطر إلى التعبير عنه بلغة المنشأ، لكن أن أستولي على ما أنتجه الغرب أو الشرق وأفرضه فرضًا على اللغة العربية، كأن أقول على الكمبيوتر حاسوب، أو أن أستبدل كلمة تليفزيون بكلمة مرناة، كل هذا- فيما أرى- هو نوع من التقعر في اللغة لا أستسيغه ولا أقبله، وما موقفي هذا إلا تعبير عن المحبة للغة العربية ولأمتها.
بقي أن أشيد- في مقالي هذا بمناسبة يوم اللغة- بسدنة اللغة العربية وحُماتها من مدرسي اللغة لأولادنا وبناتنا في المدارس والجامعات والمحبة لأئمة المساجد والوعاظ الذين يحرصون على استخدام الفصحى الصحيحة البسيطة السلسة فوق منابرهم والتقدير لكل رجال السياسة وأهل الخطابة الذين يحيلون كلماتهم إلى المتخصصين من أهل اللغة لتصحيحها لغويًا قبل أن يلقوها احترامًا للغة الرسمية للبلاد.
والتحية واجبة أيضًا لكل رجال الإعلام الذين ينطقون الفصحى البسيطة التي تحبب المتابعين للغة ولا تنفرهم منها عند استخدام المتقعرين مفردات جزلة مهجورة من باب التحذلق اللغوي أو التباهي والخيلاء.
والشكر موصول للفنانين المجيدين استخدام اللغة العربية، سواء في غناء قصائد الفصحى أو أداء الدراما التي تنطق بها، وأذكر أن الإذاعة والتليفزيون كانا قد سنّا قاعدة مقدِرة للغة وأهلها حين جعلا أجرالممثل الذي يؤدي نصًا دراميًا باللغة العربية مرّة وثلث أجر النص العامي.
الثناء كذلك واجب لرجال المجمع اللغوي الذين ينقحون ويراجعون ويحافظون على أصول اللغة وألفاظها وقواعدها سليمة دون لبس أو أخطاء.
كل الشكر كذلك للجنود المجهولين من مصححي اللغة الذين راجعوا مقالي هذا وكل المادة الصحفية التي تطالعونها كل صباح.
هؤلاء جميعًا يا سادة هم سدنة اللغة وحُماتها وهم الأمناء على العربية لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة؛ لذا فإن تحيتنا لهم واجبة نظير ما يبذلون من خدمات جليلة للغتنا الجميلة التي هي يُسر لا عُسر.