رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الديون والقروض كمان وكمان

مرة أخرى يعود الحديث والجدل فى المجتمع المصرى ومواقع السوشيال ميديا والإعلام عن قصة الديون الخارجية وسياسة الاقتراض التى تتبعها الحكومة المصرية فى الأعوام السبعة الأخيرة، ورغم طبيعة هذا الموضوع التى تتسم بالتعقيد، فإن عددًا من الخبراء والباحثين الاقتصاديين يستسهل الحديث عنه أمام الكاميرات لعامة الناس دون تمهيد أو شرح مسبق للأساسيات التى تعلمناها فى كتب الاقتصاد والجامعة.

يتسبب هذا الأمر فى لغط وتشويش وهلع غير مبرر وغير مُستحب فى ظل ضغوط كثيرة تتعرض لها الدولة بسبب الأزمات العالمية من «أوميكرون» وأزمة نقص إمدادات النفط وصراع الطاقة الدولى، وكذلك أسعار الغذاء العالمية التى وصلت إلى أعلى مستوياتها فى عشر سنوات وغيرها الكثير. القصة تبدأ من الأساسيات، وأول صفحة فى كتاب الديون يقول إن كل دول العالم تستدين بلا استثناء، لأن الاعتماد على الموارد الذاتية لن يكفى احتياجات السكان الآخذة فى الازدياد والنمو بسرعة أسرع من نمو موارد وإيرادات وإمكانيات الحكومات، لذا كان لا بد من عامل محفز ومُساعد خارجى.

الصفحة الثانية تقول إن الديون هى منشطات غير طبيعية، تُشبه المكملات الغذائية التى يتناولها الأشخاص غير الأصحاء أو الأصحاء الراغبون فى زيادة المكون العضلى فى أجسامهم، ولأنها مواد غير طبيعية فيجب أخذها بنسبة معينة حتى يستطيع الجسم الاستفادة منها بدلًا من التضرر بسببها والتسبب فى مشاكل لأجهزته وأعضائه، نفس الأمر نطبقه على الديون التى تدخل إلى جسد الاقتصادات.

يجب حساب كميتها بميزان حساس، حتى تقوم بالأثر الطيب المطلوب منها بدون آثار جانبية. ننتقل للصفحة الثالثة التى تقول إن الديون حتى تكون طيبة الأثر ومفيدة يجب أن تكون نسبتها إلى الناتج المحلى الإجمالى تحت السيطرة، ماذا يعنى ذلك؟ لفهم هذا المعنى ببساطة حاول أن تتخيل نفسك قد اقترضت من البنك مبلغًا معينًا، وهذا المبلغ تدفعه على أقساط شهرية، القسط الواحد يبلغ مثلًا ٥ آلاف جنيه، فى حين أن راتبك الشهرى يبلغ ١٥ ألف جنيه، إذن كم تبلغ نسبة القسط للراتب؟ ٣٥٪ تقريبًا.

وهى نفسها نسبة الدين الخارجى المصرى إلى الناتج المحلى الإجمالى، بلغة الاقتصاد الراتب هنا يُسمى الناتج المحلى الإجمالى وأحيانًا نستخدم معيارًا آخر هو الدخل القومى الإجمالى، على أى حال، تبلغ نسبة الدين الخارجى المصرى نحو ٣٥٪ من الناتج، والمتعارف عليه دوليًا أنه يُفضل ألا يتجاوز عتبة الـ٦٠٪.

الصفحة الرابعة فى كتاب الديون تطرح سؤالًا مهمًا: فيم تُنفق القروض/الديون؟ وهو سؤال محورى وخطير للغاية، نعود للتبسيط مرة أخرى، تخيل أن لدينا شخصين الأول مصطفى والثانى محمد، الاثنان يرغبان فى الاقتراض من البنك لشراء سيارة، مصطفى يريد السيارة لكى يشغلها تاكسى، محمد يريد السيارة لاستخدامه الشخصى، مصطفى اقترض من البنك قرضًا من النوع الاستثمارى، لأنه سيُدر عليه دخلًا يسدد منه قسط القرض ويسهم فى مصروفاته الشهرية، أما محمد فقد اقترض من البنك قرضًا من النوع الاستهلاكى لأنه لن يُدر عليه دخلًا، بل سيمثل صافى عبء عليه من وقود وصيانة وخلافه.

وهذا هو الفارق بين القروض التى اقترضتها مصر فى فترات ما قبل ثورة ٢٠١١ والفترات اللاحقة لثورة ٣٠ يونيو مع وصول الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لرئاسة الدولة، حيث يمكنك مشاهدة المشروعات الضخمة والتنمية العملاقة التى تدور فى جميع أنحاء الجمهورية، وهذه المشاريع تم تمويل أغلبها بالقروض، وهذه القروض أغلبها طويل الأجل يُسدد على ٢٠ و٣٠ و٤٠ عامًا، وبعضها سنسدده خلال ٥٠ عامًا.

سبب آخر قد يطمئنك قليلًا، يبلغ متوسط الدين الخارجى إلى الناتج فى دول منطقة أمريكا اللاتينية ٥٥٪ بينما يبلغ فى دول منطقة الشرق الأوسط ٥٣٪، وفى مصر ٣٥٪، فى البرازيل ٣٨٪، باكستان ٤٢٪، الفلبين ٢٥٪، تونس ١٠٧٪، جنوب إفريقيا ٥٧٪، الصين ١٦٪، الهند ٢١٪، وغيرها الكثير من الاقتصادات الناشئة التى تقع فى نفس تصنيف الاقتصاد المصرى بحسب التقرير الأخير الذى أصدره البنك الدولى عن الديون الخارجية لمجموعة الدول الناشئة حتى ٢٠٢٠.

وبناء عليه، ليس هناك أى داعٍ لنشر هذا التشويش والقلق بين الناس بأحاديث فنية معقدة ومجتزأة يتم قصُّها من سياقها لتحقيق أغراض لا يعلمها إلا أصحابها، فالعدو الأول للاستثمار والتشغيل هو الهلع والخوف غير المبرر والمناخ الملىء بالشائعات والتضليل والجهل، العدو الأول للنمو والتنمية هو تراجع معنويات المصريين وخفض توقعاتهم عن المستقبل، وتحويلها إلى نظرة تشاؤمية تؤثر على إنتاجيتهم ودوافعهم للعمل والاستمرار فى الجد والاجتهاد والتحمل والصبر واقتناص الفرص والترقى والنجاح.