رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دموع الأقوياء.. عنوان النقاء


قال أحدهم: لا تمنع نفسك من البكاء في كل مرة حتى تجف دموعك وتفقد قدرتك علي البكاء!.. الدموع فيها شيء من الطُهر والنقاء؛ عندما تفقدها تفقد قدرتك علي أن تكون إنسانًا.. فالدموع دليل الصدق، وعلامة الإخلاص، وصفة النقاء والطهارة، تتساقط من العيون الخاشعة.. تظل شاهدة على تلك اللحظات الربانية العلوية الكريمة.. إنها دمعات القلوب لا دمعات العيون فحسب، والبكاء الصادق لا يخرج إلا عبر ثورة الرجاء في الله الرحمن الرحيم، فلا رجاء إلا فيه، ولا أمل إلا منه سبحانه، ولا دعاء إلا له، هو المرتجى والمأمول.. والبكاء الخاشع يزيد الخشوع، ويبدي قيمة الإشفاق، ويُعلم الإخبات والإنابة، قال الله تعالى: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء:109]، وكذا كان الحبيب يدل وينبه ويوجه ﷺ.. فعن أنس رضي الله عنه، قال: خطب رسول الله، ﷺ، خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» قال: فغطى أصحاب رسول الله ﷺ، وجوههم ولهم خنين (متفق عليه).. بل إنه، ﷺ، يُرغب فيه أيما ترغيب، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي، ﷺ قال: «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثر في سبيل الله تعالى وأثرٌ في فريضة من فرائض الله تعالى» (أخرجه الترمذي). بل إن النار المخيفة تمتنع عن البكائين من خشية الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله، ﷺ: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم» (أخرجه الترمذي).
إنه ديدن الكرام الميامين، وعمل المقتدين الصالحين، فاقتدى الصحابة بالأثر وعلموا الخبر وساروا على النهج، وكان لعمر بن الخطاب في وجهه خطان أسودان من كثرة الدموع. وكان ابن عباس رضي الله عنهما أسفل عينيه مثل الشراك البالي من كثرة البكاء.. وكان عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما يبكي كثيرًا، وكانت أمه تأتيه بالكحل، فكان يغلق عليه بابه ويبكي حتى رمدت عيناه.. وعن مسلم بن بشير قال: بكى أبوهريرة، رضي الله عنه، في مرضه فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد سفري وقلة زادي، أصبحت في صعود مهبطه جنة ونار، فلا أدري إلى أيهما يسلك بي.. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي، ﷺ: «اقرأ عليّ القرآن» قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء:41]، قال: «حسبك الآن» فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (أخرجه البخاري).. وعن حفص بن حميد قال: قال لي زياد بن جرير: اقرأ عليّ، فقرأت عليه ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ [الشرح:1-3]، فقال: يا ابن أم زياد، أنقض ظهر رسول الله ﷺ! فجعل يبكي كما يبكي الصبي.
وعن قبيص بن قيس العنبري قال: كان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى، فيقال له: ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.. وعن جعفر بن سليمان قال: حدثنا ثابت البناني قال: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعًا باكيًا أو متقنعًا متفكرًا.. وعن جعفر بن سليمان قال: بكى ثابت البناني حتى كادت عينه تذهب، فجاءوا برجل يعالجها فقال ـ أي الرجل: أعالجها على أن تطيعني، قال: وأي شيء؟، قال: على ألا تبكي، قال: فما خيرهما إن لم تبكيا؟! وأبى.. وعن عيسى بن عمر: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلًا فيقف على القبور فيقول: يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الأعمال، ثم يبكي ويصف بين قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح.. وبكى عمر بن عبدالعزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبرة قالت له فاطمة: مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير، فما زالا يبكيان. وعن عباد الجشمي قال: قال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إليّ من أن أتصدق بوزني ذهبًا.
وكان، ﷺ، أكثر البكائين، رغم أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. لأن البكاء من خشية الله تعالى، له مقام عظيم، لا يشعر بفضله ومنزلته إلا أهل المعرفة، فلا تراهم إلا خاشعين، مخبتين ذاكرين لله تعالى، مشمرين عن ساعد الجد، سالكين الطريق الذى يوصلهم إلى ساحة القرب والمجد، قال الله عز وجل: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46]، وقد يرق قلب العبد الخائف من مقام الله تعالى، فلا يجد له مسلى إلا فى الدموع، فهى التى تفيد إجلال العبد لربه، وشعوره بالافتقار إلى عفوه، فتدركه العناية الإلهية، فتجري دموع البركة والرحمة والرقة لطفًا من الله بذلك العبد الوجل، وأعظم البكاء ما كان من خشية الله تعالى، قال يزيد بن ميسرة، رحمه الله: «البكاء من سبعة أشياء: البكاء من الفرح، والبكاء من الحزن، والفزع، والرياء، والوجع، والشكر، وبكاء من خشية الله تعالى».
ولهذا فإن القلوب التى عرفت الله تعالى، وأفردته بالعبادة والقصد، واستشعرت عظمة الله تعالى، ملكها الخوف منه تبارك وتعالى، والخشية والرهبة، فإن خشيت الله تعالى ملكت قلوب العارفين واستحوذت على أفئدة الصادقين، فما أحلى دموع الخشية إذا هملت من أعين الخائفين، هناك تتنزل الرحمات، وتُكتب الحسنات وترفع الدرجات.. قال سيدنا عبدالله بن عمر، رضى الله عنهما: «لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار»، وعن عبيد بن عمير، رضى الله عنه، أنه قال لأم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتت ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال «يا عائشة ذرينى أتعبد الليلة لربى»، قلتُ: والله إنى أحب قُربك، وأحبُ ما يسرُك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي، حتى بلّ حِجرهُ، قالت: وكان جالسًا فلم يزل يبكي، ﷺ، حتى بلّ لحيته، قالت: ثم بكى حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال ﷺ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟»، لقد أنزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِى الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.