رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهد «الجوارى والعبيد» فى مصر القرن الـ19

كان مشهد العبيد والجوارى من المشاهد الأساسية داخل البيوت الكبيرة فى مصر خلال القرن التاسع عشر، وكانت القاهرة والإسكندرية وطنطا تعج بأسواق النخاسة، فهى تجارة عظيمة الربح، بسبب وجود طلب متسع من جانب أصحاب المال والأعمال على اقتناء سلعتها بهدف الترفيه والتسرى. 

للمسألة، كما تعلم، أصل دينى، فقد أباح الإسلام أن يتحوّل أسرى الحرب إلى عبيد يعملون فى معيّة المسلمين، مع حفظ كامل حقوقهم كبشر، كما تشير إلى ذلك تجربة النبى، صلى الله عليه وسلم.. أيضًا أباح الإسلام «ملك اليمين» من الجوارى والإماء عند أسرهن فى حرب أو قتال.

والأصل فى فلسفة العقيدة الإسلامية هو محاربة العبودية، لأن البشر كأسنان المشط متساوون فى الحقوق والواجبات، وقد كان العبيد والموالى داخل البيوتات المكية أول من انحازوا إلى دعوة الإسلام، ولعلك تلاحظ أن القرآن الكريم حث على عتق العبيد، وجعل تحرير الرقاب كفارة للذنوب، تأكيدًا على قاعدة وقيمة الحرية، وامتثال المسلمين لتحرير الرقاب كان كفيلًا باختفاء هذه الظاهرة، لكنها ظلت قائمة وجزءًا من الثقافة الاجتماعية داخل العديد من المجتمعات المسلمة ومن بينها المجتمع المصرى.

فارقت تجارة العبيد والجوارى خلال القرن التاسع عشر الأدبيات والأصول التى وضعها النص القرآنى فى هذا السياق، فلم يعد العبد أو الجارية أسير أو أسيرة حرب أو قتال، بل أصبحت المسألة عملية اصطياد أو اختطاف للبشر، تمامًا مثلما كان يفعل الأوروبيون والأمريكان فى ذلك الوقت، والدفع بهم إلى «أسواق النخاسة». 

فى عدد تذكارى من مجلة «المصور» عن عصر الخديو إسماعيل جاء أن أشهر الأماكن التى كان يتم اصطياد العبيد منها هى جبال النوبة وجهات كردفان وجبال فازوغلى. وكان ثمن الولد الأسود أو البنت السوداء ما بين ١٠- ١٢ جنيهًا، وثمن الصبى ما بين ٢٠- ٣٠ جنيهًا، وكان يصل فى أحوال إلى ٩٠ جنيهًا، وثمن الصبية ما بين ٧٠- ١٠٠ جنيه، أما ثمن الجارية «البيضاء» فكان يتراوح بين ٨٠٠- ١٠٠٠ جنيه. 

هذه المبالغ كانت بالغة الضخامة فى حينها، وبالتالى لم يكن يُقبل على اقتناء العبيد والجوارى فى البيوت المصرية إلا كبار الأثرياء، ومع ارتفاع طلبهم على هذه الخدمة المقيتة انتعشت تجارة الرقيق وتعددت أسواق النخاسة، وبات المصرى- الذى يحب تفسير النصوص الدينية تبعًا لهواه ورغباته- ميالًا إلى هذه الآفة التى لا تفرق بين العبودية التى ربطها القرآن بالحرب والأسْر وحاربها وشجع على التخلى عنها وجعل تحرير الرقاب وسيلة من وسائل تكفير الذنوب، وبين النخاسة القائمة على الاتجار بالبشر.

وعندما تولى الخديو «إسماعيل» الحكم عام ١٨٦٣ كانت قصور الكبار وبيوت الأثرياء ومتوسطى الدخل من المصريين تتزاحم بالعبيد والجوارى، حيث كانت تجارة الرقيق شديدة الانتعاش.. ولو أنك تأملت سطور «حكاية أدهم» برواية «أولاد حارتنا» لـ«نجيب محفوظ» فسوف تلاحظ أن الأحاديث لم تكن تنتهى عن الجوارى والعبيد الذين يتزاحم بهم البيت الكبير، بل إن «أدهم» نفسه كان «ابن جارية» وذلك ما عيّره به أخوه «إدريس»، وأميمة «زوجة أدهم» كانت جارية تخدم فى البيت الكبير.

خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر قرر الخديو «إسماعيل» محاربة هذه الظاهرة المقيتة، ووقّع فى ٤ أغسطس عام ١٨٧٧ مع بريطانيا على معاهدة تعاون مشترك لمنع تجارة الرقيق فى مصر والسودان.. لم يكن هذا القرار سهلًا على العقل الدينى، فرغم بشاعة ظاهرة الرق من الناحية الإنسانية ومحاربة الإسلام لها وحث الدين على تحرير الرقاب، فإن علماء ومشايخ ذلك العصر رفضوا التوجه الخديوى، فعارض شيخ الإسلام «شيخ الأزهر» هذا التوجه معارضة عنيفة، وزعم أن توقيع الخديو على المعاهدة يتنافى مع تعاليم الدين، وانضم إليه فى المعارضة كل من المفتى وهيئة العلماء بأكملها، فما كان من «إسماعيل» إلا أن عزل شيخ الأزهر والمفتى وهدد بإلغاء هيئة كبار العلماء.

يذكر العدد التذكارى لمجلة «المصور» أن «إسماعيل» أصدر بعد ذلك أوامره المشددة إلى موسى باشا حمدى، حاكم عام السودان، بتعقب تجار الرقيق وقطع دابرهم، فألقى موسى باشا القبض على ٧٠ مركبًا تحتشد بالأرقاء، وزجّ بالنخاسين فى السجن ولم يخرجهم منه إلا بعد أن تعهدوا بعدم العودة إلى مثل تلك التجارة، لكنها بالطبع كانت وعودًا فى الهواء، فالأرباح التى كان يجنيها التجار والنخاسون أغرتهم على مواصلة عملهم، وتحدى قرارات الدولة.

مضى «إسماعيل» إلى النفى عام ١٨٧٩ «بعد عامين من توقيعه على معاهدة منع الرق» ثم أفضى إلى ربه عام ١٨٩٥ دون أن يختفى العبيد والجوارى من مصر.. فرغم اتخاذ إجراءات عديدة لمحاصرة الظاهرة بعد معاهدة التعاون المشترك بين مصر وإنجلترا ومواجهة الرق فى مصر والسودان، فإن الحال ظلت على ما هى عليه، وتختزن الذاكرة المصرية بالعديد من الوثائق التى تدل على أن الرق ظل جزءًا من الحياة المصرية حتى أوائل القرن العشرين، ولم تنته رسميًا إلا بعد توقيع مصر على اتفاقية إلغاء الرق والعبودية بجنيف عام ١٩٢٦.

لم يكن أثرياء مصر من مدمنى العبيد والجوارى والغلمان على استعداد للتخلى بسهولة عن عادة ارتبطت بمزاجهم ونمط حياتهم، ولم تكن قرارات الخديو بقادرة على تغيير أسلوب تفكيرهم، بل كان الزمن وحده كفيلًا بذلك، حين اختفت تجارة الرقيق بمرور الوقت وتطور موقف الجماعة البشرية منها.. ومن المفارقات العجيبة أن المزاج المصرى كان يعانى كدرًا شديدًا نتيجة إحساسه بالاستعباد من جانب الولاة ومن يتحلق حولهم من الكبار، ورغم ذلك لم يكن يقبل بسهولة التخلى عن فكرة استعباد غيره ما دام يملك الثمن.. اختفى العبد- وكذا الجارية- بفعل التطور، لكن أخشى أن أقول إن الحياة المصرية لم تخلُ من تطبيقات مبتكرة لفكرة الرق.