رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شهادة على العصر

شهادتي هذه ليست للنقد، ولكن لاتخاذ العبر والتعلم من الإيجابيات وتجنب السلبيات قدر المستطاع، فقد عشت عصورا نظامية مختلفة من الملكية للناصرية سبقتها لمحات لرجل لم يأخذ من الفطيرة ولو لقيمة، لم يذكره التاريخ لا إنصافا ولا تعريفا وهو محمد نجيب، إلى عصر السادات ومبارك ثم معا مع السيسي وفقه الله. 
هل كان عصر الملكية كله فساد؟ حتى إذا ما قارناه بالملكيات التي لا تزال على قيد الحياة في الشرق وفي الغرب على حد سواء؟  وهل تناولنا الملكية المصرية من منظور محايد بسلبياتها وإيجابياتها؟ وهل نتوقف عن إهالة التراب عليها ؟ لقد عشت سنوات الطفولة وأتذكر كطفل يوم أن كنا نخرج في مظاهرات مع طلاب المدارس الثانوية حيث لم تكن بصعيد مصر كليات أو معاهد علميه بل كلها  في القاهره وتلتها الإسكندرية وكان للتعليم شأنه، وقد نفرد له مقالا مستقلا في غير هذا الموضوع.
أكرر أنني لا أدين عصرا ولا فئة بقدر الإشارة بالتلميح لكل عصر بهدف التعلم والتصحيح، عشنا طفولة الملكية وفي المظاهرات الطلابية كنا نتكلم بحرية ولعلي عبارة " إيكا إيكا هات أمك وأختك من أمريكا". خير برهان على الحرية. وجيلنا وما قبله يذكرون هذه العبارة الشهيرة وغيرها ولم تكن للشرطة التدخل في حريات الطلاب كما لم يكن الطلاب مخربين أو مدمرين حتى لمقعد أو مصباح نور. 
عشنا مرحلة هتفنا فيها ضد الإنجليز للرحيل عن بلادنا . ولم يتعرض أحد - على الأقل في صعيد مصر حيث ولدنا -  وكبرنا إلى مكروه .  وكانت القاهرة دولة أخرى بالنسبة للبسطاء من  الطبقة  ميسورة الحال  وليس لعلية القوم . وخرج فاروق وهتفنا لمحمد نجيب وكتبنا له ونحن بعد أطفالا وكانت تأتينا ردود الرئاسة مصحوبة بصورة ذلك القائد.  كما خرجنا إلى أرصفة محطات السكك الحديدية لتحية الرئيس محمد نجيب الذي اختفى بعد نحو عامين ولم نعرف الأسباب ولم نكن في مراحل عمرية تسمح لنا بمتابعة الأسباب أو حتى ما آل إليه مصير ذلك الرجل في حينه.
عشنا أيام الناصرية والساداتية والمباركية وعصر السيسي وجميعهم مصريون وعسكريون خاضوا المعارك العديدة وحملوا أكفانهم على أكتافهم من أجل الوطن. ونعيش اليوم عصر السيسي، ولست أنا هنا لتحليل تلك العصور العسكرية، فلها إيجابياتها وسلبياتها شأن كل العصور ولكن لعلنا نتعلم من إيجابياتها فنكررها، ومن سلبياتها فنتجنبها أو على الأقل نفتش عن حلول للخروج من المآزق قدر المستطاع بدل البكاء على اللبن المسكوب.
لقد عاش ناصر بطلا في عيوننا رغم ضيق ذات اليد فقد كنا نعرف أنها مرحلة البناء والتعمير والتحرير. التحرير من الاستعمار الذي كنا نشير إليه صدقا بالعار فأممنا القناة وبنينا السد العالي وشددنا  الأحزمة على البطون بالنسبة لكل المصريين قادة وشعبا، عرفنا تعيين كل الخريجين بلا تمييز لابن الوزير من  ابن الخفير حتى أبطل النظام وظهرت الكوسة قصيرة العمر ولكنها تتمتع بالأولوية بين سائر أنواع الخضروات. عرفنا التعليم الجامعي لأبناء عامة الشعب بعد أن كان لأبناء الطبقة القادرة على ذلك ماديا حتى لو لم يكونوا بذات القدرة الاستيعابية لأبناء آخرين من الطبقات الأخرى . 
وطردنا الاستعمار بكل عزة وفخار وأممنا أراضي الأغنياء الذين أطلقنا عليهم إقطاعيون لأنهم كانوا يحوزون مساحات من الأرض تمتد من صعيد مصر وحتى حدود مدينة القاهرة ثم شرقا وغربا من بين جبليها الكبيرين . توقفت المظاهرات قصرا لا عن قناعة أو تقدم . كان التعليم المصري مشهودا له في الشرق وفي الغرب . لم نكن نعرف ما يسمى بدروس خاصة، ومن يمارسها من أبناء الأغنياء كانوا يمارسونها سرا لا جَهْرًا لأن متعاطيها كانوا يوصفون بالغباء ولم يكن معلموهم من معلمي فصولهم الدراسية لأنهم كانوا يرفضون بشمم وكرامة، ونسمعهم يقولون ويفعلون "ماذا يمكن تقديمه  خارج الفصل الدراسي من مزيد ؟ "  بل كانوا يستعيرون بعض حصص التربية الرياضية حتى ينتهوا من المناهج الدراسية فضلا عن ما سمي بحصص إضافية قبل موعد الدراسة بساعة مبكرا حتى كنا نخرج قبيل إشراقة الشمس لحضور الحصص الإضافية المجانية لم نكن نسمع كثيرا عن التعليم في الخارج في عصر الناصرية. 
وبدأنا العصر  الساداتي وما عرف بالانفتاح والتعليم في الخارج  واستيراد كل شىء حتى الطعام والملابس والسيارات الفارهة وتصدع التعليم بالداخل، كما عرفنا الجامعات الموازية فئوية الطلاب، ليست لكل أبناء الوطن، بل لفئة خاصة، وبعد أن كانت معنية بالدراسات الدينية دون سواها إذ بها تنافس الجامعات وتنتشر في كل ربوع مصر ويليها تعليم قبل الجامعي من رياض الطفل  حتي نهاية المرحلة الجامعية دون أن يلتقوا بمصائر لهم من أبناء وطنهم وإمكانات تمويل من كل المواطنين بل خصها الدستور بميزة لم  ينلها سائر المواطنين فامتدت كلياتها لتشمل كل أنحاء مصر بل  وإلى خارج مصر مع إلزام الدولة بتوفير كل موازناتها.

حدث أن حظيت شخصيا ببعثة دراسية لمدة عام في الولايات المتحدة لا بتمويل مصري ولكن بمنحة من الكلية في أمريكا وذلك بعد دراستي اللاهوتية وحصولي علي درجة البكالوريوس وكنت لازلت في السنة قبل الأخيرة لدراسة القانون في جامعة القاهرة. وشأني كغيري كانت أمريكا في العصر الناصري هي حلم شبابنا في عهد الثورة فقد انحصرت الدراسات خارج مصر في أعداد قليلة وللضرورة الوطنية. 
وأذكر أن المبلغ المسموح بتغييره إلى دولارات كان خمسة جنيهات مصرية وهي تعادل أحد عشر دولارا شاملة الرسوم والدمغة إذ كان سعر الدولار الأمريكي تسعة وثلاثين قرشا وقيل ممن كانوا قبلنا إنه كان يعادل ريالا مصريا أي عشرين قرشا. " واحسرتاه على جنيهنا الجريح والطريح الذي يرفضه المتسولون ويكاد يعادل ثمن رغيف خبز جاف بعد أن أصابه الوهن والهزال وأصبح لا يكفي إطعام طفل فطم حديثا. 
ولعلنا نبادر ولو يسيرا في حلحلة الأزمة. لدينا معطيات أهمها أراض واسعة بعد أن تم تحرير القدر الكبير من المساحات المعتدى عليها من مساحات شاسعة بدأت تعود إلى الدولة. والأمر الثاني لدينا مواقع متميزة شتاء وصيفا قلما وجدت في بلاد أخرى قريبة أو بعيدة. وثالثا لدينا عقول يشار إليها بالبنان والقدرة على المساهمة في إقامة الحصان من كبوته. رابعا لدينا جيش متمكن ليس فقط في المعارك والحروب التي لم نسع إليها وإنما فرضت علينا وعلى جيشنا الباسل. خامسا: لدينا قدرات بشرية برعت في أركان المعمورة في كل اتجاه من دول الشرق والغرب . ونتناول كل عنصر بإيجاز لعلنا نسهم في الخروج من الأزمة التي طالت وحولها الغيوم زادت والهموم توالت وساعات النهار مالت حتى تخيلنا أن النفق لا نهاية له لا سيما والأنوار لم تعد بقوة إضاءتها وإن لم تكن قد انطفأت بعد.

  • الرئيس الشرفي للطائفة الإنجيلية بمصر