رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اتفاقية «أوكوس» تثير ردود فعل عنيفة من حلفاء الولايات المتحدة

أوكوس
أوكوس

تسبب الإعلان عن اتفاق الشراكة الأمنية الجديدة "أوكوس" بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا في ردود أفعال عنيفة من جانب حلفاء استراتيجيين وتقليديين للولايات المتحدة الأمريكية، وسط مخاوف من أن يكون الاتفاق - في رأي محللين - "قطعة الدومينو الأولى" التي تسقط وتؤشر لانهيارات في تحالفات دولية قائمة.
فمسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أعرب عن أسفه لاستثناء دول الاتحاد من هذا الاتفاق، وتساءل عن سبب عدم وجود مشاورات مسبقة مع الاتحاد حول هذه الخطوة، فيما كان الغضب الفرنسي واضحا للغاية خاصة وأن الاتفاق كبد باريس خسارة صفقة بقيمة 37 مليار دولار لبناء غواصات لأستراليا، ما أدى بوزيرة الدفاع الفرنسية لوصف الاتفاق بأنه "طعنة في الظهر"، كما استدعت باريس لأول مرة في التاريخ سفيريها من واشنطن وكانبيرا؛ الأمر الذي يؤشر إلى أن الاتفاق هو محاولة محفوفة بالمخاطر من الإدارة الأمريكية لاستعادة الهيمنة الأمريكية في العالم.
وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا أعلنت في الخامس عشر من سبتمبر الجاري عن شراكة أمنية جديدة تعرف اختصارا باسم "أوكوس"، وأنه بالرغم من أن الدول الثلاث حلفاء مقربون منذ فترة طويلة، إلا أن العنصر الرئيس في الترتيب الأمني الجديد يتضمن تزويد أستراليا بأسطول من الغواصات المتقدمة التي تعمل بالطاقة النووية.
كما أعلن الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، ورئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن خطط لمزيد من التعاون المكثف في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.
وتعد هذه الحقائق الأساسية حول اتفاق "أوكوس" - وفقا للمجلة الأمريكية - واضحة ومباشرة، وإن كان اجتماع هذه الحقائق معا له دلالات أكثر تعقيدا من الصورة الظاهرية.
فأولا، هذه الخطوة هي نموذج كلاسيكي لسياسة توازن القوى والتهديد، حيث على الرغم من عدم ذكر الصين في أي مناسبة مرتبطة بالإعلان الرسمي عن الاتفاق، إلا أن الأمر لا يتطلب عبقريا لمعرفة أن الدافع من وراء الاتفاق هو الرد على التصورات المتزايدة لتهديد صيني آخذ في التنامي، وفقا للمجلة.
وتستند هذه التصورات جزئيا إلى قدرات الصين المتنامية بما في ذلك قدرتها على إبراز قوتها البحرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وأهدافها المعلنة في مناطق بعينها.. لذا، فإن تجهيز أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية بعيدة المدى ومتقدمة سيمكن كانبيرا من لعب دور أكثر نشاطا في المنطقة، جنبا إلى جنب مع الأعضاء الأخرين في الحوار الأمني الرباعي (الولايات المتحدة والهند واليابان).
ثانيا، على الرغم من أن ما يحدث هو إلى حد ما أمر هيكلي بحت (أي يعكس التحولات في ميزان القدرات الإجمالية)، إلا أنه من نواح أخرى، فليس لدى بكين شخص لتلومه إلا نفسها، فحتى وقت قريب، كان الرأي العام الأسترالي متناقضا بشأن الآثار المترتبة على صعود الصين، حيث كان قادة الأعمال يأملون في الحفاظ على العلاقات التجارية المربحة، وحذر استراتيجيون بارزون من أن معارضة نمو القوة الصينية ليست في مصلحة أستراليا، ولكن سلوك الصين - في رأي المجلة الأمريكية - لا سيما قرارها "غير المبرر" بفرض حظر تجاري عقابي ردا على اقتراح أستراليا بإجراء تحقيق دولي مستقل في أصول فيروس "كورونا"؛ تسبب في تشدد المواقف الأسترالية، وإن رد الصين الذي يأتي بنتائج عكسية هو تذكير بأن الولايات المتحدة ليست القوة العظمى الوحيدة التي تقوم بسوء تصرف دبلوماسي.
ثالثا، يعد الإعلان خطوة مدروسة بعناية، وسوف تستغرق عدة سنوات حتى تؤتي ثمارها، ورغم أن الترتيب الأمني الجديد لا يهدد حكم الحزب الشيوعي الصيني داخل الصين أو يهدف إلى تدمير الاقتصاد الصيني، لكن من شأنه تعقيد الجهود الصينية لإبراز قوتها في البحر والتحكم في خطوط الاتصال الحيوية.. ومن هذا المنطلق، فإن الاتفاق سيعيق الجهود الصينية المستقبلية للهيمنة على الدول المجاورة أو إقناع هذه الدول تدريجيا بتبني مواقف أكثر امتثالا لبكين، باختصار، إنها خطوة تهدف إلى إحباط أي محاولة صينية مستقبلية للهيمنة الإقليمية.
بشكل عام، إن معظم التحالفات تعاني من مشاكل العمل الجماعي والتي يمكن أن تكون حادة بشكل خاص في آسيا نظرا للمسافات والمساحات الشاسعة، والتي قد تدفع بعض الدول إلى تفضيل الابتعاد عن النزاعات التي تحدث بعيدا عن شواطئها، ولكن في هذه الحالة، لدينا ثلاث دول - واحدة منها فقط تقع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ - تتخذ وتنسق (هذه الدول) الخطوات لتيسير العمل في المواقع الإقليمية الرئيسية.. وبلا شك، فإن معضلات العمل الجماعي ستواصل الظهور، لكن الخطوط العريضة لتحالف متوازن فعال (أوكوس) تتضح بشكل متزايد.
رابعا، ستكون ردود أفعال الطرف الثالث قضية رئيسية، ولن تقتصر على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فالحكومة الفرنسية - على سبيل المثال - "غاضبة" بشأن الترتيب الأمني، لأنه نسف التزاما أستراليا سابقا بشراء 12 غواصة تقليدية من فرنسا.. وفي الواقع، ذهبت باريس إلى حد إلغاء حفل في واشنطن للاحتفال بمرور 240 عاما على التعاون بين فرنسا والولايات المتحدة.. وببساطة، عندما يقرر الفرنسيون عدم إقامة حفلة، فهو أمر - وفقا للمجلة - يستحق الانتباه، حيث تعتبر فرنسا من أشد المدافعين عن موقف أمني أوروبي أكثر قوة (وهو أمر تريده إدارة الرئيس الأمريكي بايدن أيضا)، وقد يكون لباريس دور محتمل تلعبه في أجزاء من المحيط الهادئ أيضا.
وبحسب "فورين بوليسي"، فإن الأمر الأكثر أهمية حيال اتفاق "أوكوس" هو ردود الفعل داخل المنطقة، فالقضية الأساسية هي ما إذا كان سيجري تفسير الاتفاق على أنه عمل مدروس للدفاع الجماعي وفي الوقت المناسب أم أنه استفزاز غير ضروري.. بالطبع، تتمثل إحدى القضايا الرئيسية الحاسمة في هذه المسألة في الكيفية التي تنظر بها الدول الإقليمية إلى الولايات المتحدة والصين، وعما إذا كانت أي منهما "مزعجة للسلام" التي تتوق الدول الآسيوية للحفاظ عليه.
تعكس المؤشرات أن معظم دول المنطقة ستنظر إلى هذه الخطوة (الاتفاق الأمني) باستحسان، نظرا للطبيعة المحدودة نسبيا للاتفاق الجديد وسلوك الصين "القاسي" في السنوات الأخيرة، على حد وصف المجلة.
وتتمثل القضية الأخيرة في البعد النووي.. فقد أكد قادة الدول الثلاث أن الاتفاق سيقتصر على نقل تكنولوجيا الدفع (التشغيل) النووي (لاسيما في المفاعلات الخاصة بتشغيل الغواصات الجديدة لأستراليا) وليس تكنولوجيا الأسلحة النووية، ولن يتم تسليح الغواصات الجديدة بمثل هذه الأسلحة.. وينبغي هنا ملاحظة أن أستراليا ظلت معارضا قويا للانتشار النووي وحذرة حيال الطاقة النووية المدنية، وهو ما كرره رئيس الوزراء الأسترالي موريسون في تصريحاته الأخيرة.
ويبدو مما سبق أن كل شيء جيد، ولكن يجب الوضع في الاعتبار أن شيئا أكثر دقة يحدث، إذ تتطلب المفاعلات المستخدمة في الغواصات النووية الأمريكية يورانيوم عالي التخصيب، وستتمكن أستراليا من الوصول إلى هذه التكنولوجيا مع توسع أسطولها.. ومن وجهة نظر مرتبطة بالانتشار النووي، هذه خطوة في اتجاه بنية تحتية نووية أكثر اتساعا، كما أنه مؤشر على رغبة الولايات المتحدة وبريطانيا إلى حد ما في نقل التقنيات شديدة الحساسية - وفقا للمجلة - إلى الحلفاء المقربين.
لذلك، قد يرى البعض في ذلك مؤشرا على أن الولايات المتحدة قد تخفف تدريجيا من معارضتها التقليدية للانتشار النووي، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وحيث أن الاتفاقية النووية المدنية مع الهند لعام 2005 تتوافق مع هذا الاستنتاج، فيمكن رؤية الترتيب الجديد مع أستراليا (الغواصات النووية) في ضوء مماثل.. والسؤال هو: كيف ستنظر دول أخرى - مثل كوريا الجنوبية واليابان - إلى هذا الأمر؟ وكيف ستفسره بكين؟.
ومن المؤكد أن الأغلبية لا يريدون رؤية المزيد من الدول في آسيا تمتلك أسلحة نووية، وواشنطن هى الأخرى لا تريد ذلك في الوقت الراهن، ولكن قضية الردع برمتها في آسيا - وخاصة الردع الموسع - معقدة للغاية، وسوف تزداد تعقيدا مع توسع الصين في ترسانتها النووية، وإذا تدهورت البيئة الأمنية في المنطقة خلال السنوات المقبلة، فقد تنخفض معارضة الولايات المتحدة للانتشار المحسوب لقدرات الأسلحة النووية. وعند ذلك ربما يكون المخرج من هذه الأزمة إذا كانت بكين ترغب في ذلك، أن تبدأ - وفقا لمجلة فورين بوليسي - بتكميم أفواه دبلوماسييها والحد من مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي.