رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الجن» يأكل «أولاد حبيب»

فى بعض الأوقات كان نفوذ مَنْ يحكم مصر يتحدد فى القاهرة فقط ولا يمتد إلى ما يليها، ولعلك تعلم أن وصف «المحروسة» كان يطلق على «القاهرة» ثم سحبه البعض على مصر ككل، والسر فى ذلك العرب أو الأعراب أو العربان- سمهم ما شئت- الذين كانوا يسيطرون على أطراف الدولة، سواء من الشمال أو الجنوب، فمن وقت إلى آخر كان يظهر شيخ عرب يفرض نفوذه على المنطقة التى يعيش فيها بالوجه القبلى أو البحرى وما يجاورها من مناطق ويتحول إلى حاكم فعلى لها، هذا الأمر لم يكن يُرضى كبار الحكام ممن انطلقوا فى حكمهم لمصر من مشروع استقلالى يستهدف بناء دولة كبرى مناوئة للدولة العثمانية، ومن هؤلاء الحكام، كما تعلم، على بك الكبير الذى استقل بمصر عن الدولة العثمانية، وقرر الزحف إلى بلاد الشام للاستيلاء عليها وما يليها حتى يتمكن من تكوين دولة كبرى ترث دولة الخلافة، وهو ذات المشروع الذى تبناه محمد على فيما بعد.

بدأت خطة على بك الكبير فى تحقيق حلمه بالانفصال عن الدولة العثمانية بالسيطرة على الوجهين القبلى والبحرى واستخلاصهما من يد الأعراب، وقد ظهر فى عصره شخصيتان حاولتا الانفصال بكل من الوجهين القبلى والبحرى عن «القاهرة».. التجربة الأشهر هى تجربة شيخ العرب همام، الذى استقل بجزء كبير من صعيد مصر، من فرشوط بقنا وحتى المنيا، أما التجربة الأقل شهرة فهى تجربة «آل حبيب» فى الوجه البحرى.

النجم الأبرز فى هذه الأسرة هو «سويلم بن حبيب» الذى يصفه الجبرتى بالمقدام الشهير والضرغام النجيب، من أكابر عظماء مشايخ العرب بالقليوبية، وهو الابن الأصغر لحبيب، واللافت أن نهاية الأسرة جاءت على يد النجم «سويلم» حين تولى قيادتها بعد شقيقه الأكبر سالم. 

تولى «سالم» قيادة «آل حبيب» بعد وفاة الأب، وكان مشهورًا بقوته وشجاعته، وقد دانت له «عرب بحرى» بالطاعة والتفوا حوله وخاضوا معه كل معاركه، وكان «سالم» يعمل كحارس للبرين من النيل من بولاق إلى رشيد ودمياط.. وكانت بين سالم وحاكم دسوق، الأمير الجركسى «إسماعيل بن أيواظ»، خصومة، وكان كل منهما يتربص بالآخر الدوائر، وقد حدث أن أرسل «سالم بن حبيب» فرقة من رجاله اقتحموا مربط خيول لـ«ابن إيواظ» فقصوا معارفها «شعر رأسها» وقطعوا أذنابها «ذيولها»، وهو ما أثار غضب «ابن إيواظ» نظرًا لما تحمله الرسالة من إهانة له ولجنده، فما كان منه إلا أن أرسل له واحدًا من أمهر قواده هو «حسن أبودفية» على رأس مجموعة من الجند المسلحين بالمدافع، ولم يكن عند آل حبيب مثلها، بل كانوا يحاربون بالخيل والبنادق، ورغم ذلك تمكن آل حبيب بقيادة سالم من هزيمة «أبودفية»، فاضطر «إسماعيل» إلى التحرك للحرب بنفسه، وقد أفلح فى هزيمة سالم ومن معه، وأحرق بيوتهم واستولى على أبقارهم وأغنامهم وغلالهم.

بعد الهزيمة الموجعة فرّ حبيب «الأب» مع ولده «سالم» إلى غزة، وسرعان ما مات الأب، ليجد الابن نفسه مضطرًا للعودة إلى مصر، واحتال حتى دخل على الأمير إسماعيل بن إيواظ وهو يحمل كفنه، فرضى عنه الأخير وعفا عنه وأذن له بأن يقيم حيث كان يقيم أبوه.. تمكن سالم من لملمة أشتات «آل حبيب»، وابتنى لهم الدور والحدائق والسواقى والمعاصر، وأصبح بمرور الوقت صاحب الكلمة النافذة فى وجه بحرى كله.

تحالف سالم مع المماليك، وشاركهم حروبهم، فزاد ملكه اتساعًا، ودان له الجميع حتى توفى، ليرثه أخوه الصغير «سويلم بن حبيب» فى حراسة البرين من بولاق حتى دمياط ورشيد، فزادت سطوته وثروته، كما يقول «محمود الشرقاوى» صاحب كتاب «مصر فى القرن الثامن عشر»، حتى كان رجاله يقفون فى طريق السفن التى تسير فى النيل وينادون رجالها، فإذا أطاعوهم فرضوا عليها ما يحبون من ضريبة، وأخذوا ما شاءوا من بضاعة، وإن عصوهم قطعوا طريقهم وجاءوا بهم صاغرين، وأخذوا منهم أضعاف ما يأخذونه عادة.

كان «سويلم بن حبيب» أشد شراسة من شقيقه «سالم»، وبسبب شراسته تلك تربص به الكثيرون، لذا فقد اختار لحراسته أشد الرجال، وكان لا يبيت فى مكان معلوم، ولما كثر المال فى يديه مال إلى الترف فابتنى القصور المنيفة على شاطىء النيل، وأثثها على أعلى المستويات، واقتنى الجوارى، وتأنق فى ملابسه ومراكبه، بصورة كانت محل إعجاب الكثيرين، وهو الرجل الأول فى مصر الذى كان الناس يقلدون أزياءه، والزينة التى يضعها على خيوله، وربما طريقته فى المشى أو الكلام، ما يعنى أن أسلوب حياته كان «موضة عصره». 

عاش «سويلم» مهابًا من جميع من حوله، ناعمًا بالمال الكثير الذى كان يجمعه من الفرض والضرائب التى كان يقررها على السفن كحارس للبرين، شاعرًا بالأمان بسبب استكثاره من الحرس وحرصه على التمويه على البيت الذى يأوى إليه آخر الليل، لكنه لم يكن يدرى أن هناك فى القاهرة من يشعر بالانزعاج من تمدد نفوذه وسيطرته على أقاليم القليوبية والشرقية وما يحيط بهما، وتحكمه فى المراكب العابرة فى النيل.

إنه على بك الكبير الذى تبنى مشروعًا للانفصال بمصر عن الدولة العثمانية، لكنه قرر أولًا تصفية جيوب الانفصال الداخلية التى يقودها «آل همام» فى الصعيد و«آل حبيب» فى بحرى.. لم يكن «الكبير» شخصية سهلة إلى حد أن معاصريه لقبوه بـ«جن على» أو «على الجن».. من هذا اللقب تستطيع أن تستنتج الكثير من خصاله، وما امتاز به على غيره من منافسيه، حتى دانت له البلاد «قبلى وبحرى».. إنه رجل استطاع التخلص من جميع من حوله ليستفرد وحده بالحكم، ولم يقدر عليه أعتى الأمراء، وكان مملوكًا من مماليك أستاذه إبراهيم كتخدا، وتولى الإمارة بعد وفاته.. امتاز على بك أكثر ما امتاز بالثقة العالية فى النفس، فاعتمد فى كل خطواته على ذراعه وسيفه.

على يد على بك الكبير جاءت نهاية «سويلم بن حبيب»، حين داهمه بعسكره، وتمكن من رقبته وقتله، وقتل معه كل كبار عائلة «حبيب»، وواصل قتل من تبقى منهم، حتى نجح فى القضاء على سطوتهم وسطانهم فى الوجه البحرى، ليدين له شمال مصر بالولاء والطاعة، مثلما دان جنوبها بعد ذلك.