رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الداعية

الداعية (بـ المعنى الواسع لـ الكلمة) ليس بـ وسعه أن يخلق تيارا، أو يبتدع توجها، أو يزرع فكرة.

ما صادفنيش في التاريخ (حسب فهمي) أي حالات لـ أشخاص دعوا الناس لـ موضوع ما، قوم الناس استجابت لهم.

اللي بـ يحصل هو إنه التيار نفسه بـ يتخلق نتيجة صراع اجتماعي ما، ثم ينمو، إما نموا طبيعيا بـ فعل الصراع، أو إنه السلطة تتدخل فـ تسرع عملية النمو دي بـ إجراءات على الأرض.

لكن أي تيار أو أفكار أو توجهات بـ تحتاج في عملية نموها لـ وجود الداعية كـ صوت ليها، وممثل عنها، ورمز تلتف حوله، فـ في الواقع، التيار هو اللي بـ يزرع الفكرة جوه الداعية، الذي لا يجرؤ على إنه يقول حاجة مخالفة، أو تبدو مخالفة، لـ هذا الاتجاه.

علشان كدا أنا مش بـ أستسيغ خالص فكرة إنه الشيوخ زرعوا في أدمغة الناس كذا وكذا، ولا إنهم أضلوا الناس في كيت وكيت، ولا إنهم عملوا أي حاجة.

صعود الأصولية الإسلامية في مصر بـ كافة تجلياتها، حصل نتيجة مجموعة ظروف وعوامل، أعقد من تناولها في مقال، أو حتى مجموعة مقالات.

من العوامل دي إنه المسلمين على عمومهم: أصوليين ولا حداثيين، معتدلين ولا متطرفين، ما أنتجوش نسخة من الإسلام مواكبة لـ العصر لـ إنه دا كان محتاج، إنه المجتمع نفسه يكون مواكب لـ هذا العصر، ودا ما حصلش.

بـ التالي، بقيت إنت كـ مواطن لو انشغلت بـ إنك تبقى ملتزم، مفيش قدامك غير النسخة الأصولية، هي الأكثر جذرية واكتمالا.

ربما يكون النقطة دي فيها خلاف واختلاف، ومحتاجة مزيد من التوضيح، مش دا مجاله إنما فيه حاجات تانية ملموسة أكتر، زي إنه ملايين المصريين في فترة ما، راحوا اشتغلوا في الخليج، خصوصا السعودية.

كانوا ينتموا لـ مهن مختلفة، الدكتور والسواق والمدرس ومبيض المحارة وغيره وغيره، لكنهم عادوا جميعا، وحياتهم أحسن، وظروفهم أريح.. من غير تدخل من حد، كان طبيعي يفكروا في "تفسير". 

التفسير اللي كان مناسب لـ هذه العقليات الساذجة هو إنه ربنا راضي عن السعودية فـ البترول ظهر عندهم مش عندنا، بـ اعتبار يعني ظهور البترول دا حاجة قدرية، ما كانش لهم يد فيها.

ليه عقليات المصريين كانت ساذجة؟ دا موضوع له أسباب عديدة، أهمها تجريف العقل النقدي، والتفكير المنطقي، والذهنية العلمية، لـ صالح "التجييش" اللي كان بـ يحصل بـ شكل منظم، بداية من 1952. 

فكرة إنه كل المواطنين يمثلوا حاجة واحدة، شعب واحد، يزحف زحفا مقدسا لـ مقاومة الاستعمار اللعين، والمؤامرات الكونية اللي بـ تحاك ضدنا، كان يستلزم كدا.

ناهيك عن إنه عموم الجماهير عادة بـ يكونوا أكثر سذاجة من النخبة، في كل زمان ومكان، فـ الأمر بقى مضاعف.

المهم، الملايين اللي راحوا وجم دول، ربط تحسن حالة السعودية المبهر، وحالتهم هم تبعا لـ ذلك، بـ فكرة الالتزام، اللي كانت اللحية أو الجلابية أو الحجاب أهون مظاهره.

المشكلة كانت في سيستم الدماغ، اللي كان بـ يشوف العالم من خلال معادلة بسيطة: الحق/ الباطل، وطبعا إحنا عارفين الحق كان فين بـ النسبة لهم.

تسابق العائدون في نشر هذه الفكرة البسيطة، واللي بنى له بيت، عمل له فيه جامع ولا زاوية، والجوامع والزوايا دي كانت بؤر لـ تفريخ التطرف بـ كافة أشكاله.

مع إنه دي حاجة ملحوظة، ممكن رؤيتها بـ العين المجردة، على الأقل لـ معاصريها وقتها، إلا إنها ما كانتش كل حاجة.

ما ينفعش وإحنا بـ نتكلم عن صعود الأصولية نتجاهل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، اللي خلالها اشتغلت المخابرات الأمريكية بـ التعاون مع مخابرات محلية إقليمية في استقطاب العالم الإسلامي، على خلفية تصوير النزاع بين واشنطن وموسكو على إنه نزاع بين مؤمنين (مسلمين/ مسيحيين) ضد شيوعيين ملحدين، ينكرون وجود الإله.

دا تجلى أكتر حاجة في اصطفاف العالم الإسلامي لـ دعم أفغانستان، أمريكا ما كانش عندها أي مانع من غرق هذا العالم في محيطات الأصولية، اللي ممكن ما تعرفش تخرج منها، ولا بعد عشرات أو مئات السنين، مقابل عدم تمدد المجال الحيوي لـ الاتحاد السوفيتي، اللي بـ يتمثل في انتشار الأفكار اليسارية بـ شكل عام.

(ملاحظة هامشية: الأفكار اليسارية دي كمان مش شرط متقدمة، بس دا مش موضوعنا)
أمريكا ومعسكرها ما واجهوش المد اليساري في منطقتنا السعيدة، بـ أفكارهم الليبرالية، لـ إنه زرع الأفكار الليبرالية يستلزم تفاعلات اقتصادية واجتماعية، لم تكن متوفرة عندنا، فـ الأسهل هو دعم الأصولية.

اتصرفت مليارات الجنيهات من أجل هذه الهدف ودا تجلى عندنا في إفساح المجال من قبل السادات لـ الأصولية الإسلامية، في أنشطة عملية: زي تمكينهم من الجامعات، وتنظيم معسكرات لـ الشباب، وإفساح الطريق قدامهم لـ إيجاد فرص عمل ليهم، خصوصا في مجال التجارة، اللي كانت منفلتة شوية مع بدايات الانفتاح، لاسيما تجارة العملة.

ثم بدأ توظيف الأموال، وظهور ما يسمى بـ"البنوك الإسلامية"، يووووووه، كل ما تتبع حاجة، تلاقيها منفدة على حاجة تانية، وكله كان بـ يدعم الأصولية، اللي تغلغت حتى في أعصاب المجتمع، وخلقت مزاج عام، مش مجرد حركات منظمة: متطرفة كانت أو معتدلة.

زي مثلا إنه شركة صوت الفن نفسها تكتشف أصوات جديدة، فـ يخلوها تغني أغاني عبدالحليم بس بعد تنقيتها، فـ تلاقي: "لا هـ أسلم لـ المكتوب" بقت: "راح أسلم لـ المكتوب".

الأصولية أكبر بـ كتير من فتوى هنا ولا هناك، إنما بنية ذهنية ونمط حياة، فـ لما تيجي حضرتك تبص لـ كل هاتيك التفاعلات، اللي ما فتحتش هنا حتى ربعها، ثم تيجي تقول إنه الشعراوي ولا الحويني، ولا حسان ولا يعقوب، ولا عمرو خالد ولا عبدالله رشدي، ولا ولا ولا هم اللي زرعوا الـ مش عارف إيه، فـ إنت بـ تدي الناس دي أكبر من حجمها بـ كتير.

دول مش الفيروس اللي ضرب الجسد، دول ضمن الأعراض اللي ظهرت مع المرض، وحسبي الله ونعم الوكيل