رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المناعة الثقافية والهوية الاجتماعية

معلوم أنه مع كل بزوغ نهار جديد يقدم لنا العالم معطيات جديدة لواقع مُذهل متجدد وينمو، الكثير من تلك المعطيات كفيلة بتشكيل ملامح عالم جديد يفرض نفسه علينا، أو على الأقل قادر على تغيير الكثير من مفاهيمنا وتصوراتنا عن أمور كنا نراها ثوابت ونأمل أن نبني عليها، فإذا ببعضهم يقدم لنا وللعالم البدائل الأفضل أو الأكثر قدرة ومنفعة للتعامل الأسرع أو الأقوى أو الأكثر نجاحًا وأغزر إنتاجًا إيجابيًا..
ولا شك أن الثقافة هي المعبر الحقيقي لهوية الشعوب، وهى المقياس الواضح لدرجة تقدمها وازدهارها، وللأسف كانت هي أيضًا المدخل الذى سلكه أعداء الحياة لتدمير التراث الفكري والمستقبل العلمي للشعوب.
وأرى أن النهوض بالثقافة المصرية يتطلب الخروج من تكرار المبادرات الفردية إلى العمل الجماعى والمشاركات الحقيقية التى تُمثل فيها كل الثقافات المصرية، ومشاركة فاعلة من كل المؤسسات ذات العلاقة بالعمل الثقافي والتنويري والتوعوي، وأيضًا تمثيل حقيقي وفاعل لشبابنا، وأن نؤمن بأهمية الأخذ بفكر الشباب والاعتماد على الكوادر الشبابية فى إحداث نقلة حضارية وثقافية تدفع بركب الثقافة المصرية للمقدمة والتفرد والتوفيق.
ولذلك، ينبغي تثمين الجهود الرائعة التي بذلتها حكومات ما بعد ثورة 30 يونيو للتوجه الرائع بتكليف من الرئيس ودعم مؤسسة الرئاسة لتنظيم مجموعة مؤتمرات رائعة أعد برامجها ونظمها وأدار فعالياتها الشباب ذاتهم على المستوى المحلي والإقليمي والعربي والإفريقي والعالمي دعمًا لنظرية أن الإنتاج الفكري الحقيقي هو ذاك الذي يفرزه تلاقح الأفكار، فيؤسس لحالة ثقافية إنسانية خالدة بالدرجة الأولى، أما اللون الواحد فهو مقيت ولا ينتج عنه سوى "عقم فكري ".
كما أن تطوير العمل بالهيئة العامة للكتاب بشكل عام، وتأمين رغيف الخبز الثقافي عبر تحويد العمل بإدارة المعرض السنوي للكتاب بشكل خاص، والعودة لفتح أبواب بيوت الثقافة من جديد- كلها تمثل الانتظام في مشاوير تشكيل ملامح جمهورية جديدة.
ولكن يبرز السؤال، هل لدينا ثقافة المواجهة الفاعلة والتعامل المنطقي البناء، أو ما يطلق عليها مقومات "المناعة الثقافية" الكفيلة بالتعامل مع فرضيات الواقع المتجددة والقادرة على عمليات الانتخاب الإيجابية ؟ 
في مواجهة ذلك السؤال عند طرحه على أرض الواقع، ينبغي إدراك أننا أمام مجموعة من التحديات في مواجهة دنيا وعالم متعدد المفاهيم القيمية والعلمية، وعلينا المواجهة المرنة المنطقية بإيمان صادق بمقولة "نعم نستطيع"، دون التمترس والثبات المعطل بدعوى الحفاظ على الهوية والتراث والقيم والأصول، فالدول التي تمتلك "المناعة الثقافية والفكرية" قادرة على انتخاب عناصرها الإيجابية والتعامل العلمي الفاعل مع المعطيات الجديدة مهما كانت درجات الصعوبة الناشئة من حالات تسارع التفاعلات بين القوى المتنافسة.
بدون اعتماد هوية اجتماعية وثقافية ينقطع المواطن عن بيئته، بل وعن الذات تماما، وبدون تحديد واضح للآخر لا يمكنه تحديد هويته الاجتماعية والثقافية، ويشير "برهان غليون" إلي أنه "لا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرِف نفسها وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، فقبل أن تنهض لا بد لها أن تكون ذاتًا".
وفي تعريفه لمعنى والمقصود بالهوية، أشار المفكر "د. سعيد إسماعيل علي" إلى أنها " جملة المعالم المميزة للشىء الذي تجعله هو هو، بحيث لا تخطئ في تمييزه عن غيره من الأشياء، ولكل منا- كإنسان- شخصيته المميزة له، فله نسقه القيمي ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته، وهكذا الشأن بالنسبة للأمم والشعوب.
وقد ذكرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن الهوية الثقافية هي "النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذي يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذي يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع، مع الاحتفاظ بمكوناتها الثقافية الخاصة وميزاتها الجماعية، التي تحددت بفعل التاريخ الطويل واللغة القومية والسيكولوجية المشتركة وطموح الغد.