رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البنت التى سرقت طول أخيها

ما قالته الجدة لملاك الرب الذى زارها وهى تصلى العصر: 

كلت يداى وأنا أحمى هذه الجدران، انحنى ظهرى، وتساقطت رموشى من السهر عليها.. استحلفنى وهو على فراش الموت أن أحفظ إرثه، أطعت أبى وتزوجت ابن عمى، ارتضيت بنصف زوج وابن وانتظرت أحفادى جاء الأول ولدًا، فرحت وزاد شوقى للثانى، لكنها جاءت ولم يأت بعدها حفيد آخر، الملعونة سدت الطريق أمامهم وسرقت أرواحهم، أصبحت السرقة داء لديها. تختلس حكاياتى وترويها للغرباء، ميراث أجدادى.. أسرع أيها الملاك.. كلت يداى.. تعبت.. تعبت.

ما قالته الأم ولم تبح به حتى لنفسها: 

تستحثنى عيناها أن أقف إلى جوارها، أن أنطق، أدافع عنها، لا أستطيع، الصمت هو اللغة التى احترفت نطقها، فى المرات المعدودة التى انطق فيها، تلفحنى نيران الغضب من وجوه الآخرين، عندما حضر أبوها بعد مولدها بأسبوع، سألنى، فأجبت: 

- بنت. 

تجهم ولم ينبسط لى بعدها. 

وعندما أصبح أخوها الذى يكبرها بعام يستعد لتقديم أوراقه للمدرسة الثانوية، وأصرت أن يلتقط لها المصور صورة معه، تساءلت وأنا أمعن النظر فى الصورة: 

- هل توجد بنت أطول من أخيها..؟! 

وضعتها الجدة فى قفص الاتهام، وأبقت باب القفص مواربًا، وفى كل لحظة تدفعنى إليه بعد أن تدير وجهها وتتمتم:

- اقلب القدرة على فمها.. 

ما قاله الأخ وهو يغلق مظروفه الكبير راضيًا:

تقبض جدتى على يدى وفى اليد الأخرى تحمل شمعة وتلف بى البيت، تشير إلى الجدران التى توحشت شروخها وتعدنى بحبات المشمش إن أصلحتها، كل ما تصلحه لك، يتجلى ظلى على الجدران، يغطيها ويصل رأسى إلى السقف. 

عندما رأيت الصورة تقلص ظلى وعدت أتقوقع فى مصباحى وصدى صوت أمى يتضخم فى أذنى.

- هل يوجد ولد أقصر من أخته؟

ما قالته الراوية لابنتها القصيرة: 

كان اليوم محددًا لتوزيع القليل الذى تركه أبوها. لم يكن فى ذهنها تصور محدد، فتحت لها زوجة أخيها. كالغرباء جلست فى أقصى حجرة الضيوف، أحاطت طفلتيها واحدة على حجرها والأخرى سندتها بذراعها اليمنى. 

مرت الدقائق بطيئة وبدا البيت شائخًا مستسلمًا لوطأة السنين، وجسد الأثاث الجديد غربتها.

أقبلت أمها معها جدتها، ومن خلفهما أخوها.

الضوء القليل المتسرب من النافذة أضفى على الوجوه ظلالًا باردة، كعادتها انسحبت روحها وتركتها فى الساحة دون سند. 

طلب أخوها أن توقع بعض الأوراق.

همت أن تعترض.

صرخ أخوها:

- لقد أخذت الكثير.. أكثر مما تستحقين.

بظفره انتزع القشرة الميتة للجرح المستديم. بحثت فى وجه أمها عن رد.. 

أمها التى لم تنتبه إلى أنها صارت أطول منها، وأن ملابسها الصيفية أصبحت قصيرة، حتى كان اليوم الذى التقطت فيه صورة مع أخيها، حدقت الأم فى الصورة، وفجأة خبطت على صدرها وصرخت وهى تنظر إليها:

- من أين أتيت بهذا الطول؟ 

احتارت، نظرت إلى جدتها.. الجدة المشغولة بحبات الكهرمان، تذكرت وقتها أباها «شيخ الغفر» ذا القامة الفارهة. 

فأدلت بدلوها، وهى تبربش بجفنيها اللذين تساقطت رموشهما: 

- لا بد أنها سرقت طول أخيها وهو نائم.

مزق أخوها الصورة، انزعجت كانت تعرف من جدتها التى تخصها بالحكايات وتطعم شقيقها حبات المشمش أن لكل ذنب عقابًا، فاستعادت كل الذنوب التى ارتكبتها:

- قطعة الهريسة التى أكلتها قبل المدفع بربع ساعة. 

- المرات التى نامت فيها دون أن تصلى العشاء. 

لكن هذا الذنب تحاول أن تتذكر متى ارتكبته، كيف، لا تتذكر، إنها لا تستطيع أن تقترب من مسطرته أو كراريسه. 

ضاعف من إحساسها بالذنب أن أمها اضطرت إلى تفصيل زى مدرسى جديد، وقبل فتح المدرسة بأسبوع تنهدت: 

- وطبعًا تحتاجين حذاء. 

استسلمت لذنبها وصدقته وأصبحت تنتظر العقاب. 

انسحبت الجدة لتصلى العصر، نفد صبر أخيها والأوراق تهتز فى يدها. 

- ليس لدىّ وقت. 

الصمت يخنق الغرفة والوجوه العابسة ليست أول العقاب، أشارت لها المدرسة الأولى للتربية الرياضية من مكانها فى الشرفة: 

- أنت، ارجعى آخر الطابور، نعم، أنت، البنت الطويلة، أطول بنت فى المدرسة، آخر الطابور. 

تركزت الأنظار عليها، تجمدت الحياة فى عروقها، الجميع يعرف سرها الآن. 

كررت المُدرسة الأمر، وتحركت مدرسة شابة لتنفيذه، أمرتها أن تحمل حقيبتها وتتبعها إلى آخر صف فى الطابور. 

رفعت المدرسة وجهها ونظرت إليها باستنكار:

- ما هذا، خراط البنات خرطك بالطول!! 

كان الطابور الأول وكل الطوابير بعده حصة عقاب. 

- «البنت الطويلة إيدك لفوق، لا تنظرى لأسفل، علىّ صوتك، أعلى، أعلى.. الأفضل أن تأتى متأخرة هكذا قررت. تركن ظهرها لحائط المدرسة. تتحمل ضربات العصا الثلاث على اليدين بالتبادل وتدخل الفصل لمكانها فى الصف الأخير.

الغريب أن وجهها- كما تحكى المتعاطفات معها- كان دائمًا هادئًا. نسين طولها الفارع وأصبح مصدر عجبهن استسلامها التام لضربات العصا، وللدرجات التى تقل، وللنتيجة التى انتهت بها إلى مدرسة التجارة المتوسطة. 

مرة واحدة كادت تفقد هدوءها عندما قرأت فى مجلة فنية أن عارضة الأزياء ناعومى كامبل يزيد طولها على ١٨٠ سم، أى إنها أطول منها. وكانت صورتها تشى بالسعادة والزهو وقبل أن يتسرب الاتزان إلى روحها، صرخ فى أذنها أحد شيوخ الميكروباصات: 

- ليس على المسلمة أن تقلد الكافرة المتبرجة. 

أصبح جرحها غائرًا، وكلما تكونت عليه قشرة ميتة وجدت من ينزعها، زوجها الذى تركها وطفلتيها ليبحث لهما عن أخ ولد، وجدتها التى تتعجب من بنات آخر زمن، أمها الصامتة، أخوها الذى يذكرها دائمًا بأنها أخذت ما لا تستحق. وقعت على الأوراق، وتنازلت عمّا تستحق وانسحبت وخلفها الطفلتان فى هدوء.