رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قبل طرحه بمعرض الكتاب.. «الدستور» تنشر فصلاً من «ماركيز لن أموت أبداً»

ماركيز لن أموت أبداً
ماركيز لن أموت أبداً

ضمن أبرز الكتب الجديدة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، تصدر دار «العربي للنشر» في القاهرة قريباً، الترجمة العربية لكتاب «ماركيز.. لن أموت أبدًا.. حكايات كتبه»، للكاتب والصحفي الكولومبي كونرادو زولواجا.

ولم يكن «ماركيز» مجرد كاتب فاز بجائزة نوبل في الأدب، بل هو أكثر من ذلك، كان ظاهرة مرت بالعالم وأثرت فيه بقوة وتركته يحمل علاماتها حتى يومنا هذا، وعلى الأرجح في المستقبل البعيد.

وعلى غير ما هو معتاد في معظم ما نُشِر عن «ماركيز»، سيحكي هو عن نفسه، عن ذكريات طفولته، وكل ما مر به منذ أن كان في بيت جدته وجده وكيف نشأ هناك، وحتى رحلته في كتابة أشهر رواياته وقصصه التي نُشِرت، مثل «خريف البطريرك»، و«في ساعة نحس»، و«الحب في زمن الكوليرا»، وبالطبع أشهرها «مئة عام من العزلة».

مثلًا سنعرف أن روايته الأشهر تلك ليس لها نص أصلي بسبب عدد المسودات التي كتبها «ماركيز» لخوفه من أن تضيع منه.

سيحكي عنه كذلك أصدقاؤه، مثل «خوليو كورتاثر»، و«فوينتس»، و«ماريو بارجاس يوسَّا»، و«خوان رولفو»، وغيرهم من مؤلفي أمريكا اللاتينية المشاهير، وحتى «ميلان كونديرا» سيكتب عنه وعن قراءته النسخة غير المحررة من الترجمة التشيكية لـ«مئة عام من العزلة».

مؤلف الكتاب كونرادو زولواجا، هو كاتب ومحرر صحفي من مواليد عام 1947، كان مديراً للبرنامج القومي للمكتبات العامة في كولومبيا، ومديراً لمكتبة جامعة كولومبيا والمكتبة الوطنية.

ظل أستاذاً لمادة الأدب لمدة تزيد على ثلاثين عاماً، وشغل يوماً وظيفة الملحق الثقافي بالسفارة الكولومبية في مدريد، ولمدة عشرة أعوام عمل مدير تحرير لمجلة «الفاجوارا» بكولومبيا.

وخصص معظم دراساته لأدب وأعمال «ماركيز»، وكان هو المدير المؤسس لـ«مشروع جارثيا ماركيز» لجامعة كولورادو في بمدينة «دنفر» الأمريكية.

ونشر عدداً من الكتب، منها: «الدكتاتورية: قصصها في الأدب» (1978)، كذلك «الباب إلى جارثيا ماركيز» (1982)، و«القطار وركابه» (1995)، وكتاب «الرذيلة التي لا شفاء منها» (2005)، «قراءات في أدب جارثيا ماركيز» (2015).

«الدستور» تنفرد بنشر فصل كامل من الطبعة العربية لكتاب «ماركيز لن أموت ابدأ» قبل طرحه في المكتبات:

 

كهف المافيا


هناك العديد من القصص والحكايات التي نُسجت حول رحلة كتابة "مئة عام من العزلة"، أعظم رواياته، على الرغم من أن "ماركيز" نفسه له تفضيلات أخرى. تتراوح هذه القصص بين قصص اخترعها "ماركيز" عندما تحدث عن "مئة عام من العزلة" - كما فعل دائمًا - والصحفيون يحاصرونه، خصوصًا بعد أن حققت الرواية المركز الأول في المبيعات، والقصص التي حكاها أصدقاؤه، وأخرى لمحللي الرواية ودارسيها، ولكاتبي السيرة الذاتية. وإذا أضفت إلى كل هؤلاء المقالات المكتوبة عنه، والأطروحات التي تُكتب للحصول على درجات جامعية، وكذلك المقابلات الصحفية، ستجد أن عدد تلك القصص قد أصبح خياليًّا ومثيرًا للحيرة.

تقود مثل هذه الظروف إلى حدوث مواقف غير مألوفة، مثل تلك التي عاناها الرجل العجوز لكن الصامد في رواية "خريف البطريرك"، مع حبه الذي لا نهاية له للسلطة. في موقفٍ ما، نراه وهو يُنقل في موكب سيارات، ولكن السيارات كانت تسير بترتيب مختلف عمَّا هو معتاد، فينتهي به الأمر فاقدًا الإحساس بالواقع، لدرجة أنه لم يعد يدري أي سيارة يركب. شيء مشابه لهذا يصيب ثرَّاء "ماركيز" عندما يضعون رواياته جانبًا، رغبة منهم في معرفة المزيد عن الكاتب الكولومبي نفسه.
حدث الأمر نفسه بدرجة أقل لأولئك الذين يحكون قصة كتابة رواية "مئة عام من العزلة"، والظروف التي مر بها "ماركيز" في أثناء كتابتها، ومحاولاته لإنهائها في العام الذي سبق نشر الرواية. هذا يعني العامين ما بين منتصف عام 1965 حتى 5 يونيو 1967، وهو التاريخ الذي عُرِض فيه الكتاب للبيع في العاصمة الأرجنتينية.

الكتابة الفعلية لهذه الرواية كانت بين هذين التاريخين، لكن البعض يعارض بالقول إنها استغرقت من ماركيز ثلاثين شهرًا تقريبًا؛ في حين يؤكد "ماركيز" أن كتابة الرواية استغرقت ثمانية عشر شهرًا؛ بدأت من أول أكتوبر صباحًا، ويدعي آخرون أنه لم يبدأ فيها مبكرًا مثلًا في يناير، ولا متأخرًا في شهر أكتوبر. لكن لو أنه استغرق في كتابتها ثمانية عشر شهرًا أو أربعة عشر، فما الذي يهم في ذلك؟

إذًا فالواقعي أكثر هو أن نصدق ما صرَّح به المؤلف، حتى ولو لو يكن هذا هو ما حدث فعلًا: ظل لثمانية عشر شهرًا حبيس منزله في غرفة المعيشة التي حوَّلها إلى استديو، عُرف هذا المكان وسط أصدقائه باسم "كهف المافيا".  

استلزم الأمر منه سنة ونصف السنة؛ لكي يدرك أن اللغة الشعرية والواقعية التي ستناسب روايته هي تلك التي تحدثتها جدته "مينا" عندما كان يخطئ فتعاقبه بأن تقيده في مقعد في أحد أركان المنزل في "أراكاتاكا"، فيجلس هناك وحوله تماثيل القديسين مراقبة له. كانت الطريقة نفسها التي تحدثت بها العمة "فرانسيسكا سيمودوسيا ميخيا" وهي تشرح له أن البيضة الفاسدة هي في الحقيقة بيضة ثعبان وأنهم لا بدَّ وأن يحرقوها في الفناء. ربما كانت اللهجة والوجه الجامد هما نفسهما اللذان تقمصهما جده الكولونيل "نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا" (باباليلو)، عندما أراه البحر للمرة الأولى وهو ولد صغير وسأله "ما الذي يوجد على الشاطئ الآخر؟"، فجاء رد جده أنه "على الجانب الآخر، لا يوجد أي شاطئ". إنها اللهجة نفسها التي كتب بها كافكا الجملة الأولى لروايته "المسخ"، أو "رولفو" في روايته "بيدرو بارامو".

تسلمت "مرسيدس" مسؤولية إدارة المنزل بالكامل بالخمسة آلاف دولار التي أعطاها لها "ماركيز"، كما باعت السيارة التي اشتروها بأموال الجائزة التي حصل عليها "في ساعة نحس"، لتنفق على المنزل. بعد مرور عام ونصف العام، وبعد أن انتهى ما معها من أموال، اضطرت "مرسيدس" إلى أن تلجأ إلى مصادر أخرى؛ مثل إقناع الجزار وصاحب البيت بأن تتعامل معهما بالآجل. وبحلول الوقت الذي انتهى فيه "ماركيز" من كتابة الرواية، كانا في حالة مادية صعبة لدرجة أنهما اضطرا إلى أن يقسما صفحاتها الستمئة إلى نصفين، ثم رهنا آخر ما يمتلكان من أثاث منزلي لكي يتمكنا من إرسالهما إلى بوينس آيرس. تذكَّر "ماركيز" تعليق "مرسيدس" المقتضب بعد إرسال النصفين، حيث قالت: "لا ينقصنا الآن سوى أن تفشل هذه الرواية".

يختلف أسلوب الكتابة من مؤلف لآخر؛ فمثلًا نجد أن "هيمنجواي" فضَّل أن يكتب وهو واقف على قدميه، وأن يكتفي بنقل وزنه من ساق إلى أخرى، وعندما سُئل عن سبب قيامه بذلك أجاب: "كي أتعب سريعًا فلا أكتب أي هراء". أمَّا "فوكنر"، فقال إن كل ما يحتاج إليه هو الورق، والقلم، والويسكي، والسجائر. أمَّا "ماركيز" فكانت لديه طريقة عملية وفعَّالة ساعدته على أن يظل متصلًا بالقصة وألا يفقد ترابطها أو زخمها. كانت إحدى الصعوبات التي واجهته في أثناء كتابته "مئة عام من العزلة" هي أن يربط ما كتبه في الليلة السابقة بما سيكتبه صباح اليوم التالي. لذلك توصل إلى أن الطريقة الوحيدة التي ستساعده على الربط بين كل شيء هو ألا يكتب كل ما لديه من أفكار مرة واحدة، وهو شيء مشابه لإستراتيجية "هيمنجواي" الذي جادل بالقول إنه ليس من الحكمة أن "تُفرغ البئر ماءها"، أو أن يلقي بكل ما لديه على الورق. وهو ما فعله "ماركيز"؛ لم يكتب كل ما لديه من أفكار وأحداث، اكتفى بكتابة أفكاره المكتملة، لكي يستطيع أن يركِّز بعدها على جعل الأفكار الأخرى المتناثرة داخله متكاملة وصالحة للكتابة. وبهذه الطريقة، استطاع الكاتب الكولومبي صاحب الـ"نوبل" أن يكتشف وسيلة فعَّالة ورائعة: بعد أن يظل يكتب لست ساعات صباحًا، يتوقف عن الكتابة في فترة الظهر ليستريح. بعدها يصحح ما كتبه صباحًا بخط اليد. ثم يعود إلى الكتابة بعدها حتى وقت متأخر من الليل، ثم يتوقف مرة أخرى ويعود إلى العمل مجددًا صباح اليوم التالي. وفي الصباح التالي يطبق كل التصحيحات والملاحظات التي كتبها يدويًّا في اليوم السابق، وبعدها يبدأ عمل اليوم الجديد بسلاسة نسبية.

كانت هذه هي طريقته في العمل على الرواية التي ستجلب له الشهرة والمجد. وفي المساء، عندما كان أصدقاؤه يأتون لزيارته، اعتاد إخبارهم بمدى تقدمه في العمل، أو التحدث عن الشخصيات التي أحبها أكثر. في الأيام التي تلت ذلك، كان "موتيس" يحكي بحماس لأصدقائهما المشتركين عن تفاصيل وحكايات مختلفة عن الرواية، لذا ففي النهاية، أصبح هناك نسختان من الرواية؛ تلك التي كتبها "ماركيز"، والثانية التي حكاها "موتيس" في اليوم التالي. في مقابلة أجرتها "ماريا لويزا إليو" مع مجلة "كامبيو"، قالت:

"ذهبنا إلى محاضرة لـ"كارلوس فوينتس"، ألقاها مباشرة قبل رحيله إلى أوروبا: كان "جابو" معنا، و"مرسيدس"، و"ريتا ماسيدو"، و"كارمن"، و"جومي"، وأنا. قال "ألبارو": "أعدت زوجتي الأرز الكاتالوني، تعالوا إلى منزلي للعشاء". حينها بدأ "جابو" يتحدث عن رواية كان يكتبها. وصفها بأنها ستصبح رواية لا مثيل لها، كبيرة للغاية، ومن عالم آخر. لطالما عُرفت بين أصدقائي بأنني متنبئة لا يُشق لها غبار، كنت دائمًا ما أستطيع التنبؤ بالفائز في أي شيء. في تلك اللحظة، وفي أثناء استماعي له يتحدث، أخبرته: "إذا كنت تكتب رواية بتلك المواصفات، فإن العالم فسيتغير العالم كما نعرفه. إذا كتبتها، فستصبح الرجل الذي أعاد كتابة الإنجيل". سألني "جابو" حينها: "هل تعجبك فكرة الرواية؟"، أجبته: "أعتقد أنه كتاب رائع"، فعقَّب قائلًا: "إذًا، فسأهديه لكِ".

إن "ماركيز" لم يكتب مجرد رواية، بل إنه شن حربًا كانت قد بدأت منذ عشرين عامًا سابقة له، وكان هو الجندي الأخير الذي يطلق آخر ما يحمل من رصاص من أعماق "كهفه". كافح لكي يجد الصوت المناسب والمنظور الضروري. اختبر العديد من الأساليب والمناهج مع قراءات لا نهاية لها، باحثًا عن أسلوبه الخاص حيث حارب الاستخدام المفرط للصفات، وإغراء الوقوع في فخ الصيغ المبتذلة والكليشيهات المكررة، التي وجدها في كل مكان. عشرون عامًا وهو يكافح من أجل أن يتعلم كتابة رواية في بلد حُرِم من تراث أدبي، ولكي يكتشف أن اللغة المناسبة والمقنعة للكتابة هي اللغة الشاعرية لجدته التي استخدمتها لتمارس سلطتها عليه، اللغة التي تحدثها جده وفتح بها العالم أمامه. عشرون عامًا دون كلل لكي يكتشف مميزات البساطة:

"في تلك الليلة الطويلة، وبينما العقيد خيرينيلدو ماركيز يستذكر أمسياته الميتة في حجرة خياطة آمارنتا، حكّ الكولونيل أوريليانو بوينديا قشرة وحدته القاسية، لساعات طويلة، في محاولة لكسرها. كانت لحظات سعادته الوحيدة، منذ ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه ليتعرف إلى الجليد، هي تلك التي أمضاها في مشغل الصياغة، حيث كان الوقت ينقضي وهو يركِّب الأسماك الذهبية الصغيرة. لقد وجد نفسه مضطرًا إلى إشعال نيران اثنتين وثلاثين حربًا، واضطر إلى خرق كل عهوده مع الموت والتمرغ كخنزير في مزبلة المجد، كيف يكتشف، بتأخير يقارب الأربعين عامًا، امتيازات البساطة".
ظهرت الرواية في المكتبات وأكشاك الصحف في بوينس آيرس في الخامس من يونيو 1967، ونشرتها "إديتوريال سودأمريكانا" – Editorial Sudamericana. ربما بسبب مجموعة من الظروف التي حدثت، كان نشرها ممكنًا. في النصف الثاني من عام 1965، كان "ماركيز" على وشك أن يكتشف أسلوبه الخاص. كان في طريقه إلى "أكابولكو" في إجازة مع عائلته عندما فهم كل شيء. وعندما عاد من هذه الرحلة، عزل نفسه لثمانية عشر شهرًا. قبل أن يحدث كل هذا، وصل الكاتب "لويس هارس" إلى المكسيك. كان يحضِّر لكتابٍ عن أشهر تسعة كتَّاب يقودون المشهد الأدبي في أمريكا اللاتينية. كان كتابه ذاك بمنزلة مرجع أدبي لتلك المنطقة. عندما أجرى مقابلة مع "فيونتس"، وهو واحد من التسعة، أخبره عن "ماركيز" وأعطاه بعضًا من كتبه، لأن "هارس" لم تكن لديه أدنى فكرة عنه. وبعد أن قرأ له، أجرى مقابلة مع الكاتب الكولومبي. بعد عدة شهور وقبيل انتهاء العام، كان لا يزال في بوينس آيرس، تكرر المشهد نفسه؛ تحدث "هارس" مع "فرانسيسكو بوروَّا" المدير التنفيذي والمحرر بدار "سودأمريكانا". قال له إن كتابه يجب أن يضم عشرة مؤلفين وليس تسعة. العاشر هو "ماركيز". لم يكن "بوروَّا" قد قرأ أي شيء لـ"ماركيز"، لذلك أعاره "هارس" بعضًا من كتبه التي أحضرها معه من المكسيك.
كان "فرانسيسكو بوروَّا" ماهرًا في التعرُّف إلى الكتابة الجيدة، وعندما قرأ لـ"ماركيز" شعر وكأنه أمام اكتشاف عظيم. كان رد فعله الأول سريع؛ أرسل خطابًا إلى الكاتب الكولومبي عبَّر فيه عن اهتمامه ورغبته الأكيدة في إعادة طبع كتبه. أجابه ماركيز أن هذا أمر مستحيل لأنه متعاقد مع ناشرين آخرين بخصوص هذه الكتب وأن هؤلاء الناشرين أصدقاء له أيضًا، لكنه عرض عليه رواية أخرى "قاربت على الانتهاء منها". طلب منه "بوروَّا" أن يخبره شيئًا عن هذه الرواية الجديدة، فأرسل إليه "ماركيز" أربعة فصول منها. جاء رد فعل" بوروَّا" سريعًا للغاية، أرسل له عقدًا وخمسمئة دولار كمقدمة. أخيرًا، تعرَّف أحدهم على الإمكانيات التي حملتها رواياته وقصصه! بالنسبة إلى "ماركيز"، الذي ظل منتظرًا فرصة مثل تلك لخمسة عشر عامًا، لم يفكِّر حتى في النقاش أو المساومة. أراد حقًّا أن تُنشر روايته، ومن أفضل من "سودأمريكانا" لتنشرها له، خصوصًا أنها تمتعت لوقت طويل بنوع من الشهرة الأسطورية. وقَّع "ماركيز" العقد في العاشر من سبتمبر عام 1966. كان قد انتهى من كتابة الرواية بطريقة مبدئية، ولكنه احتاج إلى عدة أشهر أخرى لمراجعتها في "كهفه"، حيث كان يقضي عشر ساعات أو أكثر يوميًّا.
إضافة إلى حكاية "ألبارو موتيس" الشفهية عمَّا مر به "ماركيز" في أثناء كتابة هذه الرواية، فقد عُرِف بعد ذلك أنه كان هناك عدة نسخ مكتوبة من "مئة عام من العزلة". اعتاد "ماركيز" عند الانتهاء من أحد الفصول والتأكد من أنه شكله ومعناه قد اكتملا، يعطيه لسكرتيرة لتكتب منه نسخة على الآلة الكاتبة، كانت هناك نسخة أصل وعدة نسخ منها نتيجة لخوفه المرضي من أن يضيع منه أو أن يختفي. بخلاف النسخة المكتوبة على الآلة الكاتبة التي أرسلها إلى "بوروَّا"، والتي يبدو أنها هي أيضًا قد اختفت، لا علم لدينا عمَّا حدث مع النسخ المتبقية والتي تبادلها أصدقاؤه في المكسيك وكولومبيا، وقد حاول أخوه "إليخيو" عبثًا أن يجد تلك النسخ. في كتابه "ما وراء أسرار ميلكياديس" – Tras las Claves de Melquíades، يحكي "إليخيو" بأسلوب كتابة جيد للغاية عن رحلة بحثه تلك؛ حيث بدأ تلك الرحلة بتكتم وتفانٍ يستحقان الإعجاب، وكتب أيضًا عن مراحل تطور الرواية. من المفارقات الغريبة أنه لا توجد نسخة أصلية لرواية هي الأشهر والأكثر قراءة في القرن الواحد والعشرين. إن الأوراق التي يمكن اعتبارها أصلية هي تلك التي استلمها "ماركيز" من الناشر وعلَّق عليها بملاحظاته وتصحيحاته بخط يده. كان هناك 180 ورقة، وكل واحدة طولها 30 سم والتي أعطاها بعد فترة لـ"لويس ألكوريثا" وزوجته، كتب لهما: "إلى لويس وجانيت، إهداء مكرر، لكنه من قلبي؛ "من الصديق الذي يحبكما أكثر من أي إنسان في هذا العالم" جابو 1967".
إذًا، كانت تلك الأوراق هدية من "ماركيز" لـ"لويس ألكوريثا" و"جانيت ريزنفيلد"، أمَّا الرواية نفسها فقد أهداها لـ"جومي جارثيا أسكوت"، وهو شاعر كولومبي رائع وتقريبًا غير معروف في كولومبيا، وإلى زوجته "ماريا لويسا إليخيو"، وهى إسبانية هاجرت إلى المكسيك مع عائلتها في أثناء الحرب الأهلية. كانت كاتبة سينمائية وممثلة، أدت دورًا في فيلم "على الشرفة الخالية" -En el balcón vacío . كان "ماركيز" يثق بها ويأتمنها على أفكاره في أثناء كتابته لـ"مئة عام من العزلة"، وهو بذلك جعلها – كما قالت هي نفسها عدة مرات – شخصًا محظوظًا. صدرت لها مجموعة قصصية مؤثرة ورائعة تحت عنوان "وقت البكاء" - Tiempo de Llorar، وهي حكايات عن أحلام العودة - التي تكاد تكون مستحيلة - إلى مدينة طفولتها. أشار "ألبارو موتيس" في مقدمة النسخة الإسبانية من مجموعتها القصصية إلى أن "قراءتها تدخلك في دائرة لا نهاية لها من الحزن، والأحلام، وألم المنفى.. ذلك المنفى الداخلي الذي نحمله جميعًا، والذي لا يستطيع تمييزه وإدراكه سوى قليلين".