رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية شارع امتداد كورنيش النيل والفتوى التاريخية بضمه للملكية العامة

شارع كورنيش النيل
شارع كورنيش النيل

 يروي الكاتب الصحفي صلاح عيسي، في كتابه "حكايات من مصر"، كواليس فتوى شرعية تؤكد على الاحتفاظ بشاطئ النيل ضمن إطار الملكية العامة، مشيرا إلي أن وقائع هذه القصة تعود إلي العام 1891 حيث تعقدت أوضاع مصر الداخلية بوقوعها تحت الاحتلال الإنجليزي، فقد كانت من الناحية الاسمية ولاية عثمانية تتبع الباب العالي، أما من الناحية الفعلية فقد احتكر الإنجليز كل شيء فيها، وتركوا للخليفة العثماني بركة الدعوة باسمه علي منابر المساجد لا أكثر ولا أقل.

وفي العام 1891 مات قاضي قضاة مصر الشيخ عبد الرحمن نافذ أفندي، فخلا بموته منصب رئيس قاضي القضاة  الشرعي في مصر، وتساءل الناس عمن يخلفه وعما إذا كان ذلك الخلف سيعين عن طريق دار الخلافة وبفرمان من الباب العالي، علي ما جرت به العادة من قبل، أو أن الحكومة المصرية ــ الإنجليزية فعلا ستصدر أمرها بشغل المنصب.    

- تمصير المناصب وتعيين قاضي القضاة

وكانت مصر علي عهد الخديوي إسماعيل، قد أخذت حق تمصير هذا المنصب الهام، وأصبح قاضي القضاة يعين بمرسوم من الخديوي، وكرر الخديوي توفيق طلبه ببقاء حق تعيين القاضي لمصر، ودارت في الكواليس السياسية معركة حول هذا الموضوع، بيد أن السلطان كان غاضبا لأن الحكومة المصرية قبلت تعيين مستشار إنجليزي لوزارة العدل المصرية، ولهذا أصر علي الاحتفاظ بحقه في تعيين القاضي، وعين بالفعل الشيخ عبد الله جمال الدين في المنصب، وعندما وصل القاضي الجديد إلي مصر وجد أمامه مشكلة معقدة، إذ كان اللورد "كرومر" قد اشترى، باسم الحكومة الإنجليزية قطعة أرض في حي قصر الدوبارة علي ساحل النيل الشرقي، لبنائها دارا للقنصلية الإنجليزية، وبعد أن تم الإتفاق علي البيع والشراء، أرسل ناظر المالية إلي قاضي القضاة يطلب توقيع الصيغة الشرعية وتسجيل البيع، واستخرج الحجة بذلك وأعاد القاضي السؤال عما إذا كان تحديد الأرض يشمل شيئا من ساحل النيل، فلما جاءه الرد بالإيجاب اعترض علي تسجيل البيع لأن الطريق المشرف علي السواحل هو ملك السلطان حسب نصوص الشرع.  

 - مشكلة ضم كورنيش النيل

ويمضي صلاح عيسي موضحا: واندفعت صحف الاحتلال تؤيد اللورد "كرومر"، وردت الصحف الوطنية مهاجمة اللورد ومؤيدة حق السلطان في أن يحتفظ بملكيته للسواحل، لأنها طرق عسكرية، وظاهر كثيرون موقف القاضي، واعتبروه فرصة للنيل من صلف ممثل الاحتلال الإنجليزي وغروره، وانضم رياض باشا رئيس الوزراء إلي صف اللورد "كرومر" وقال: "فليصدر القاضي ما شاء من فتاوي"، في نفس اليوم اجتمع مجلس النظار، وأصدر قرارا بالموافقة علي البيع متضمنا ساحل النيل.

وهكذا ظلت السفارة البريطانية في القاهرة على شاطئ النيل أكثر من ستين عاما، خلافا لرأي قاضي القضاة الذي استند إلي فتوى شرعية بالاحتفاظ بشاطئ النيل ضمن إطار الملكية العامة لضرورات عسكرية. وبعد ثورة 23 يوليو 1952 اضطر الإنجليز للسماح للحكومة المصرية بشراء جزء من حدائقها ليكون امتدادا لشارع الكورنيش،  وأثبت التاريخ عمليا أنه ليس بالفتوى وحدها يعود المحتلون إلي الحق، ولكن أولا بالسلاح.