رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من زرع حصد

 

من وقت لآخر يكتب بعض الزملاء أن مصر وقيادتها مؤيدة برعاية إلهية.. ورغم أننا جميعًا عبيد الله، نسعى إلى رضاه وتأييده.. فإن ما أستطيع أن أقوله إن ما تحققه مصر من انتصارات على المستوى الإقليمى هو تطبيق لقاعدة بسيطة درسناها ونحن صغار.. حيث كانت مناهج المطالعة تمتلئ بعبارات قصيرة حاسمة تقول: إن «من جد وجد» وإن «من زرع حصد» وإن «من سار على الدرب وصل».. هذه العبارات تحمل عبقريتها فى بساطتها.. وقد جاءت علينا سنوات فى مصر فقدنا الإيمان بجدوى العمل.. ففقدت هذه العبارات قيمتها.. وأصبحت أقرب إلى فلكلور مضحك.. لكن الواقع الآن يقول إن قيمة العمل تعود.. وإن قيمة التخطيط تعود.. وإن قيمة الدأب تعود.. زيارة وزير الخارجية الأمريكى لمصر.. والاتصالان المتقاربان من الرئيس الأمريكى جو بايدن.. بعد فترة قطيعة.. وبعد تصريحات اعتبرت غير ودية أثناء ترشحه للرئاسة تقول إن ثمّة تغيرًا ليس فقط فى الموقف من مصر.. ولكن فى تغييرات الأمن والسياسة فى الإقليم.. ولكى نفهم أين نقف الآن؟.. علينا أن نعود للوراء تسعة عشر عامًا كاملًا.. حيث أفاقت أمريكا على أحداث الحادى عشر من سبتمبر.. وانشغل الأمريكان بسؤال: «لماذا يكرهنا المسلمون؟» وتلقت الإدارة الأمريكية إجابات مختلفة، لكنّ الديمقراطيين الذين لم يكونوا فى الحكم وقت وقوع الحادث اقتنعوا بإجابة واحدة.. هذه الإجابة كانت للأسف مضللة.. وكانت تقول إن سبب كراهية الشعوب الإسلامية لأمريكا يعود لتأييدها نظم حكم تكرهها هذه الشعوب.. كانت الإجابة مضللة تمامًا.. المتطرفون الإسلاميون يكرهون أمريكا لأنهم يقسمون العالم إلى دار حرب ودار إسلام، وأمريكا دار حرب.. يكرهون كل مختلف.. وأمريكا مختلفة.. أيًا كان الأمر.. سار الديمقراطيون فى الشوط لآخره.. فكّروا على طريقة «ودَاونى بالتى كانت هى الداء».. كان هناك من قدم لهم جماعة الإخوان على أنها جماعة قابلة للتطويع والاستخدام وجاهزة للعمالة، وأنها تستطيع أن تكفيهم شر تطرف القاعدة وغيرها من التنظيمات التى خرجت من عباءتها.. وهكذا تم طرح سيناريو الربيع العربى.. وتم تجهيز المسرح للحدث الكبير.. وطرحت وزيرة خارجية الديمقراطيين كونداليزا رايس مصطلح «الفوضى الخلاقة» وهو ما يعنى أن تدخل المنطقة فى عملية فوضى طويلة قد تستمر عامًا أو اثنين أو ثلاثة أو سبعة عشر عامًا، كما حدث فى العراق.. مع احتمال غير مؤكد أن تكون هذه الفوضى «خلاقة»، أى تسفر عن وضع إيجابى فى النهاية.. وبسبب الجينات الحضارية لهذا الشعب العريق حقًا وصدقًا.. استشعر الناس الخطر بعد أن اندفعوا فى يناير بفعل أوضاع خاطئة كثيرة.. وأيد الشعب تحرك قواته المسلحة.. فى ٣٠ يونيو.. وتعرضت مصر لنوع قاسٍ من الحصار.. من أمريكا وغير أمريكا.. لكن العمل الدءوب والتخطيط المثمر والتوازن فى العلاقات الدولية، وتنويع مصادر السلاح، والتمكن من أوراق اللعب فى المنطقة، وإجادة مؤسسات الدولة عملها، وتأديتها له بشكل مهنى ومحترف.. والمؤشرات التى تتحدث عن استقرار الدولة فى مصر وجديتها فى معركة التنمية، والأهم من كل ذلك «استمرارها» فلا أحد يجرى ترتيبات إقليمية مع دولة ضعيفة أو مشكوك فى تأييد شعبها لها.. إن المعنى الذى أستخلصه شخصيًا من تأمل مسيرة مصر منذ ٣٠ يونيو وحتى الآن هو الإيمان بالعمل والإخلاص والتخطيط والدأب، وهى كلها معان كنا نفتقدها فى حياتنا فى مصر، وأظنها ستعود بقوة فى الأيام المقبلة.