رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا خير فى مجتمعات تهين وتذل وتقلل من شأن الأمهات

منذ فترة قصيرة، تم افتتاح محل كبير للجزارة فى حى شبرا، الذى أسكن فيه، ومنذ الأيام الأولى، أصبح من أشهر بائعى الجزارة فى البلد، والطوابير المنتظرة بالساعات لا تملّ الانتظار بأرقام محددة بالدور، مثل عيادات الأطباء.. كل مشاهير المنطقة يذهبون إليه، شخصيات عامة، وفنانون، وكلهم يمدحون فى بضاعته وأسعاره المعقولة، وأمانته.

وعرفت أن السبب فى جودة بضاعته أنه يربى فى مزرعته الخاصة المواشى التى يبيع لحومها للناس ليضمن نظافتها وتميزها.. ورغم أننى لست من هواة اللحوم، وربما تمر شهور طويلة دون أن أتذوق اللحم، فإننى قررت أن أجربه، خاصة بعد أن عانيت الكثير من غش وسوء معاملة محلات الجزارة، وكيف يستغلون أى فرصة لرفع السعر مع انخفاض جودة اللحوم.

وفعلًا جربته منذ يومين، ووجدته يستحق كل المديح والشهرة والإقبال الذى حصده فى فترة قصيرة.. ما لفت نظرى بشدة هو أن الإعلان الوحيد الذى يقدم به نفسه مكتوب عليه جملة واحدة، تقول: «يا بركة دعاكِ يا أمى».. رجل بسيط، مصرى، ابن بلد بصحيح، يدرك فضل الأم على نجاحه وحب الناس له، يفخر بأمه ويعتبرها السبب فى العِز الذى وصل إليه، وعندما يختار إعلانًا له لا يختار إلا ما يذكره بفضل الأم.

ليت كل الرجال على هذا النحو من احترام الأم، والاعتراف العلنى بفضلها، وعنايتها، وليتهم يدركون أنّه لا خير فى إنسان يحتقر أمه، أو يقلل من شأنها.. ولا خير فى مجتمعات تهين الأمهات فى قوانين الأحوال الشخصية، وعلى أبواب المحاكم، وتحت طاعة الأزواج والآباء.

إن «الأم» هى أولى محطات الارتباط العاطفى للطفل، بل إنها الخيط الأساسى الذى يربطه بالعالم الخارجى، الذى يربطه بالحياة.. الأم للطفل ليست «رمزًا» للحياة، ولكنها هى الحياة، فإذا حدث «خلل» فى علاقة الطفل بأمه يحدث خلل فى علاقته بالحياة كلها، خلل يكبر مع الطفل ويتطور معه.

وأكبر خلل يراه الطفل داخل الأسرة الذكورية هو رؤية أمه مصدر الطعام، والدفء، والأمان، والحنان، «تُهان» جسديًا، ولفظيًا، ونفسيًا، من قِبل الأب الذكورى المتسلط. ويتعرض الأطفال لتلك المفارقة البشعة حتى لو كانوا غير واعين أن يروا «الأم»، المخلوقة الوحيدة التى تصلهم بالعالم، «مقهورة»، لكنهم «عاجزون» عن حمايتها والدفاع عن حقوقها وكرامتها.

وأمام هذه المفارقة يشعر الطفل بالتقصير وتأنيب الضمير، لكن الأسمنت المسلح الذى بنى البيوت الذكورية على مدى آلاف السنوات يجعله يتكيف مع «إهانة» الأم، و«إهدار» كرامتها.. يدخل الطفل فى صراع نفسى يمزقه بين حبه لأمه وبين الخضوع للأب الذى يمد ذكوريته وتسلطه إليه هو الآخر.

النتيجة الطبيعية؛ طفل مشوه، تعيس، مهان، مطيع، مزدوج العاطفة بين «حب» الأم و«إرضاء» السلطة الذكورية.. يكبر الطفل وبداخله «عنف» مكبوت، غامض، دائم الإلحاح، ممتزج بأنواع ودرجات من العنف، والتطرف، والتعصب.. ما أكثر الشخصيات العنيفة، المتعصبة، المتطرفة، التى تعيش معنا وترهبنا دون أن تحمل سلاحًا، ودون أن تسفك الدم.

إن غالبية الحُكام على مر التاريخ الذين تسببوا فى الحروب، والتدمير، وسفك دماء، وإشاعة الخراب، كانوا أطفالًا «تعساء»، تعرضوا للقهر، والضرب، والإذلال، والاغتصاب، ورأوا بأعينهم كيف تتحول «الأم»، رمز الحياة، إلى «الإهانة» الذكورية بجميع أشكالها، ودرجاتها، وهم عاجزون عن حمايتها، وحماية أنفسهم.

إن القاسم المشترك بين الرجال الناجحين، المبدعين، الأسوياء، فى مجالات مختلفة، أنهم كانوا أطفالًا سعداء، يستمدون سعادتهم وكرامتهم من سعادة وكرامة أمهاتهم.. إنه شىء مألوف أن يعترف الرجل منهم قائلًا بكل فخر: «أمى هى التى صنعتنى» أو «أمى علمتنى الكرامة وعزة النفس».. أو «هذا من فضل أمى»، أو «يا بركة دعاكِ يا أمى».

بينما نجد أن الرجال الذين أهينوا ورأوا إهانة الأم «يستعرّون» من أمهاتهم اللائى كن ضحية الإرهاب الذكورى داخل الأسرة.. حتى اسم الأم يصبح نوعًا من العار.. إذا كنا نريد فهم بعض الأبعاد النفسية للشخصية العنيفة المتطرفة، فهذا معناه تكوين أسرة صحية سوية.

والأسرة السوية الصحية ليست هى الأسرة المتيسرة اقتصاديًا، فقد رأينا شبابًا يتطوعون للانضمام إلى التيارات الإرهابية التكفيرية الدموية وهم من خلفية اقتصادية وعلمية عالية ومتميزة.. لكننا نقصد بالأسرة السوية الصحية تلك التى تحررت من التوجه الذكورى، وخالية من التوجه السلطوى الأبوى ضد الأمهات والأطفال.. الآباء «المتسلطون» فى المجتمعات الذكورية هم مَنْ يبدأون بالفعل الإرهابى الأول.. ونقصد به «إهانة»، و«إذلال» الأمهات أمام أعين أطفال أبرياء يختصرون الحياة فى كلمة «الأم».. «إهانة» النساء و«إذلال» الأمهات... يا لها من خطيئة.

من بستان قصائدى

أيها الكروان الشريد.. كيف عرفت عنوان اعتكافى

تأتى دائمًا بعد أن أنهى القصيدة.. أصبحت صديقى الوحيد

يؤنسنى بغنائه الشجى الباكى.. أحقًا.. تواسينى.. تعزينى..

أحقًا تدرك مأساتى.. أم أنك كالفرح

عابر سبيل ضلّ الطريق.. أو ربما أنت سحابة هائمة

من سحابات تخيلاتى