رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المشاغب الأعظم.. صلاح عيسى يقصف حسن البنا من قبره

صلاح عيسى
صلاح عيسى

وحده فضل ألا يتعامل مع الكتابة بمنهجية «يحيى الفخرانى» وإنما بـ«بهججة» وخفة محمود عبدالعزيز فى فيلم «الكيف»، لأنه يؤمن بأن سيرة الشخصيات المنسية تستحق أن تروى، حيث أدرك اللعبة المحيرة منذ البداية، والتى تتلخص فى أن هامش مصر هو متنها ولا متن لها دون هامش، لكن لا يدرك ذلك سوى مثقف انحدر من أصلاب الطبقة الوسطى التى لا تبيت على الحلوى ولا تنام ممتلئة المعدة، مثقف اسمه صلاح عيسى. 

 

في مدينة سوتشي الروسية اغسطس ١٩٨٨

 

الجماعة تنتج فيلمًا عن «المرشد» وصلاح عيسى يرد!

رحل كلاهما بكل ما يحملان من تناقض قد يلفت نظر الأعمى، الأول بعد أن تم اغتياله فى فبراير عام ١٩٤٩، والثانى لحقه بعد أكثر من ستين عامًا بعد غيبوبة داهمته لأيام، الأول كان مدرسًا فى المدرسة الابتدائية الأميرية فى الإسماعيلية، لم يستطع زرع الورد فى أطفال المدرسة، فتفرغ كى يزرع الشوك فى جسد المجتمع كله، حين قرر أن يؤسس جماعة «الإخوان المسلمين»، أما الثانى فبدأ حياته كاتبًا للقصة القصيرة، لكنه هام على وجهه بحثًا عن قصة الوطن الأكبر، فكتب «حكايات من دفتر الوطن»، وتأمل شخصياته العجيبة، الأول حسن البنا، الذى لم يحسن الظن بوطنه، والثانى «صلاح عيسى» الذى أصلح الكثير من الوقائع التاريخية وأعاد سبر أغوارها، وما لا يعرفه الكثيرون أن صلاح عيسى تزوج من أخت غير شقيقة لـ«حسن البنا»، بل الأغرب أن صلاح كتب وروى فيلمًا تسجيليًا قرب نهاية التسعينيات عن ليلة اغتيال البنا، وقيل إن عيسى خسر بسببه عشرة آلاف من الجنيهات!

فحين أشار بعض المصادر، فى يناير الماضى، إلى أن «جماعة الإخوان» تفكر جديًا فى إصدار فيلم وثائقى عن حياة حسن البنا، مؤسس الجماعة، وذلك لتحسين صورته أمام المجتمع المصرى، كما فضلت الجماعة أن يؤدى دوره الممثل الهارب وجدى العربى، تذكرت فيلم صلاح عيسى وتمنيت لو يرى النور.

الفيلم عبارة عن لوحة تسجيلية لما حدث عام ١٩٤٩، أمام مقر اتحاد الشبان المسلمين فى شارع رمسيس، مقر الإخوان حينها، طبقًا لرواية «عيسى»، كما أشار الكاتب الصحفى خالد محمود فى مقال له بـ«الأسبوع» نشر بتاريخ ٢٣ مارس ١٩٩٨، والفيلم يستهدف أمرين، يحملان فى جعبتهما شيئًا من التناقض الخفى.

فأولهما هو التأصيل لجذور العنف الأصولى، وفى لمحة ذكية من لمحات عيسى يربط بين قرار البنا بإنشاء جهاز سرى عام ١٩٣٦ وبين العصابات اليهودية فى فلسطين، فى إشارة منه إلى أن ظاهرة التطرف بنوعيه الفكرى والدينى لن تنتهى إلا بحدوث سلام حقيقى وعادل يحقق المصالح العربية.

الأمر الثانى أن عيسى أراد أن يلقى الضوء على أن الجهاز السرى للإخوان أصبح يمثل نفسه ولا يمثل حسن البنا، بل إن الأخير نفسه راح ضحيتها، وأن عمليات الإخوان لم تخدم أهداف الجماعة، بل كانت جزءًا من الصراع المتبادل بين اليسار والسلطة فى مصر.

ضرب صلاح عيسى اليسار- على الرغم من انتمائه إليه- فى مقتل، لأن اليسار كان يرى أنه يجب وضع كل الأفكار فى سلة واحدة، ويحمل الجماعة الجمل بما حمل، توقع البعض أن يهاجم اليسار الفيلم، وربما صلاح عيسى نفسه، لكن الغريب أن الهجوم أتى من قلب الجماعة، فشن «سيف الإسلام» ابن حسن البنا هجومًا على الفيلم، وقال إنه يتعجب أن فيلمًا من ١٤٠ دقيقة لا يحتوى على مقابلة واحدة مع عائلة البنا، وأنه يحتفظ لنفسه بحق الملاحقة القضائية، إذا رأى أن هناك ما يستوجب، وأنه يستغرب أن فيلمًا عن البنا يعتمد على شهادات خصومه اليساريين، وكان يقصد هنا خالد محيى الدين ورفعت السعيد، الرئيسين السابقين لحزب التجمع.

لم يرد صلاح عيسى على كلام سيف الإسلام، الذى هاجم الفيلم- ويا للغرابة- قبل أن يراه، لكن صلاح ترك أبطال الفيلم يتكلمون بالنيابة عنه، منهم المهاجم والمدافع والمحايد، ففى الفيلم من انتمى للجماعة وأقسم على بيعتها مثل «خالد عاصره»، وصاحب موسوعة فى الإسلام السياسى هو «حسن حنفى»، ومتخصص فى هذه الظاهرة مثل «رفعت السعيد»، ومنهم المحايد مثل «خالد محمود» و«عاصم الدسوقى».

ففى حين تستعد الجماعة لإنتاج فيلم عن «حسن البنا»، لا أطالب بإنتاج فيلم آخر للرد عليهم، لكنى أتمنى أن نتيح الفرصة لصلاح عيسى كى يرد عليهم من قبره!

 

صلاح عيسى 

حتى فى الرحيل لم يتوقف عن الشغب

من اقتربوا من صلاح عيسى لديهم حكايات لا تنتهى عن الجانب الساخر فيه والروح المشاغبة لديه، وهذا ما يحكيه أيمن الحكيم للشماع وهاجر، إذ عمل الحكيم مساعدًا لصلاح فى رئاسة تحرير جريدة «القاهرة» لأكثر من ست سنوات، حاول الحكيم فى حديثه أن يستعيد بعضًا من حكايات العم صلاح عيسى، فقال راويًا عن الأخير: «مرة كلمنى مصطفى نبيل لما كان رئيس تحرير مجلة (الهلال) وطلب منى أن أكتب مقالًا شهريًا.. قلت له: خلينى أكون صريحًا معك.. الصحف مثل الستات تُنكح لثلاث: لسعة انتشارها.. ولنفوذها.. ولفلوسها.. وأنتم تفتقدون الشروط الثلاثة.. يبقى انكحوا مقالات ليه؟!».

 

مع الجراح جون كنيس الذي اجرى لع عملية القلب المفتوح في ١٩٩٦

 

 

 

ظلموه من أسموه المقريزى

فى كتابهم «حكايات من دفتر الوطن» الصادر حديثًا عن دار شمس للنشر والتوزيع كشف محمد الشماع وهاجر صلاح معًا عن وجوه عديدة لصلاح عيسى لم يلتفت إليها الكثيرون، ما بين المؤرخ الذى انتقى مجموعة من الأحداث التاريخية التى غابت عن الذاكرة، فكتب حكايات عن دفتر الوطن والمحارب الذى لم يتخاذل فى حربه ولا يتخلى عن فكرته، فكتب دستورًا خاصًا به، ورمى دستور السلطة فى صندوق القمامة والانتقائى الذى فصل المجتمع المصرى فى عهد الخديوية حين كتب عن «البرنسيسة والأفندى» وهى قصة زواج البرنسيسة فتحية، ابنة الملك فؤاد والشقيقة الصغرى للملك فاروق من شاب مصرى يدعى رياض أفندى غالى القبطى فى مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية عام ١٩٥٠، وربما تلك القصة تحيلنا إلى وجه آخر من وجوه عيسى وهو الدرامتورجى الذى يحمل فى داخله كاتب سيناريو دقيق كالساعة السويسرية التى لا تؤخر عقربًا، لكن عيسى تحول من كاتب دراما حديثة إلى أحد أفراد مؤلفى الحكاية الشعبية، وبهذا يقلق الشماع وهاجر كل من ارتاحوا أو ارتكنوا إلى أن صلاح عيسى كان مجرد «مقريزى» أو «جبرتى» عصره، عيسى لم يكن كذلك، ولم يكن كاتبًا صحفيًا ولا مفكرًا، بل كان كل ذلك.

وتكشف الكاتبة الصحفية أمينة النقاش، أخت رجاء النقاش وزوجة صلاح عيسى، فى الفصل الأول من الكتاب عن جانب آخر من جوانب صلاح لا يعرفه الكثيرون، وهو ذوقه وثقافته الفنية إذ رأى أن «اللمبى» فيلم كويس علينا تأمله، وكان يحب عادل إمام والريحانى والقصبجى والقصرى ومدبولى، إذ كان عاشقًا لعالم اللونين الأبيض والأسود، كما كتب عن نبيلة عبيد كتابة تصفها أمينة بالـ«جبارة».