رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسبوع الموت فى الساحل الإفريقى




بالقرب من الحدود الغربية للنيجر مع دولة مالى، شهدت مجموعة من القرى أعنف هجمات إرهابية مسلحة منذ سنوات، جرى ذلك خلال أسبوع واحد شن فيها المسلحون هجماتهم بطريقة «الإغارة» المكثفة والمفاجئة، ليسقط عدد من الضحايا يقارب الـ«200 قتيل» أكثر من نصفهم كانوا من نصيب منطقة «تاهوا» وحدها. حكومة النيجر فى بيانها الرسمى الذى بث عبر التليفزيون الحكومى للدولة؛ أشار إلى المنفذين باعتبارهم «عصابات مسلحة» أدان بالطبع استهدافهم المدنيين على هذه الصورة الواسعة، بجانب الهجوم على القوات الأمنية والعسكرية الموجودة بهذه المناطق، وجاء التوصيف دالًا باعتبار هذا الاستهداف الممنهج، يعد «عبورًا لمرحلة جديدة من الرعب والهمجية» حسب نص البيان الحكومى.
هذه الهجمات وقعت بالقرب من منطقة تسمى الحدود الثلاثية، عند تخوم النيجر ومالى وبوركينا فاسو التى تتعرض بانتظام لهجمات إرهابية، والدول الثلاث تشهد بداخلها تناميًا يثير قلقًا بالغًا فى الفترة الأخيرة، لكن تظل المناطق الحدودية «الهشة» فيما بينها هى الأكثر خطورة عما سواها، حيث تركز التنظيمات الإرهابية على التمركز فيها والقيام بعمليات مناورة وانتقالات مرنة، ما بين تلك الدول، هروبًا من الملاحقات الأمنية أو العسكرية التى تظل ضعيفة الإمكانات الفاعلة على الأرض. الغارات الجديدة كانت فى «إنتازاين» و«بكواراتى» و«ويستانى» وشملت أيضًا المناطق المحيطة بهم، وهى جميعها تقع فى منطقة «تاهوا» القريبة من الحدود مع مالى، وهناك أيضًا بلدة «تيليا» التى تتبع منطقة «تيلابيرى» التى شهدت هى الأخرى إحدى الهجمات العنيفة، التى توجهت بشكل مباشر إلى القرى التابعة للبلدة، حيث أمطر المهاجمون السكان المسالمين بنيران كثيفة أصابتهم بحالة من الذعر، حيث كان الاستهداف الرئيسى سرقة مواشيهم، وهو ما جرى على نطاق واسع بالفعل. ويعد هذا الفعل ضربة فادحة لاقتصاديات هؤلاء السكان محدودى الإمكانات، التى تعد ماشيتهم هى رأس مالهم الرئيسى فى تلك المناطق ضعيفة الموارد بالأساس.
وقعت الهجمات بطريقة غير نمطية إلى حد كبير، حيث استخدم المهاجمون الدراجات النارية الصحراوية التى توفر لهم مرونة كبيرة فى الحركة، ومثلت كل مجموعة بحسب شهود العيان ما بين 10 و20 دراجة نارية، يستقل كلًا منها اثنان، واحد للقيادة والثانى لإطلاق النيران من الرشاشات الأوتوماتيكية السريعة. بعض الهجمات وقعت على سيارات الأهالى العائدة من السوق الأسبوعية فى «بانيبنغو»، وأخرى جرت عبر قتل السكان وإحراق السيارات ومخازن الحبوب والمحاصيل. لكن اللافت فى هذا الأسبوع، أن تنظيم «داعش» وعلى هامش تلك الهجمات قامت إحدى المجموعات الأكثر تجهيزًا، بتنفيذ هجوم على موقع عسكرى تابع للجيش فى مالى أسفر عن مقتل «33 جنديًا»، وهو ما يلقى بمساحة أكبر من التساؤلات، حول حجم التنسيق ما بين التنظيم وبين المهاجمين الذين نفذوا الهجمات بداخل النيجر، حيث تظل المسافات متقاربة والأداءات والتزامن يربط هذا الأسبوع بما جرى فى مالى بشكل كبير. وهو أيضًا يلقى بظلال إضافية حول حجم التعاون الوثيق ما بين التنظيمات الإرهابية، وبين العصابات المحلية المسلحة التى بدأت ترى فى التنظيمات الإرهابية نافذة جديدة لعملها، وموردًا وفيرًا لنشاطها بالنظر إلى حجم الخدمات المتبادلة فيما بينهما.
حتى الآن؛ لم تخرج من هذه المنطقة التى تعرضت لهذه الخسائر الفادحة، سوى أخبار تفيد بأن هناك كتيبة قوامها «1200 جندى» تابع للجيش التشادى، ستقوم بالانتشار فى منطقة المثلث الحدودى فى إطار «مجموعة دول الساحل الخمس»، التى تضم خمس دول، هى: موريتانيا ومالى وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، التى تسعى للتعاون فى مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة منذ العام 2015. كما تستفيد دولة النيجر أيضًا من عملية «برخان» الفرنسية، التى تكافح وتتابع نشاط وتحركات العناصر التابعة للتنظيمات الإرهابية الأعلى قدرة، والمقصود بها تنظيمى «القاعدة» و«داعش»، وقوام القوة الفرنسية يقارب نحو «5100 عسكرى» من مختلف الرتب والتخصصات الاستخباراتية والعسكرية وبعض من متخصصى الرصد التكنولوجى. لكن تظل الطبيعة الجغرافية وضعف الإمكانات المحلية، هو التحدى الأصعب لتلك الدول الذى ينذر بتنامٍ للظاهرة أكثر من توقع انحسارها، فى المنظور القريب على الأقل.
لا شك أن هذه الجماعات تسعى لإرهاب المجتمعات المحلية، عبر نشر الرعب والفزع على نطاق واسع، وهو ما ظهر خلال عمليات حرق الأسواق والعائدين لقراهم منها، كما تحاول اختراق المنظومات الأمنية الوطنية طوال الوقت، لإظهار نوع من القوة وفرض التواجد على الأرض. وتستخدم فى كثير من الأحيان عمليات الخطف لرعايا الدول الغربية، ومن ثم إطلاق سراحهم بعد الحصول على فدية تمول بها عملياتها ونشاطها الإرهابى، فى نمط متكرر لاستعراض القوة، وتوصيل رسائل للدول المستهدفة بأن الجماعات الإرهابية بإمكانها الإضرار بها وبمصالح تلك المناطق، خاصة أن هذا النشاط يضرب التنمية فى مقتل، ويعطلها إلى مدى غير معلوم فى ظل هذا التنامى والتنوع الذى تجرى به. وحتى الآن تظل المواجهات المباشرة بالقوة لم تقدم نجاحات كبيرة فى محاصرة إنهاء الإرهاب من جذوره، بقدر ما أسفرت عن خسائر كبيرة متبادلة ويدفع فيها السكان المحليون فاتورتها الباهظة.
هذا المشهد المعقد دفع مصر للمشاركة مع هذه الدول الخمس منذ العام 2018، من أجل إنشاء كيان موحد لتبادل المعلومات الاستخبارية، التى يمكنها أن تسهم على نحو فعال فى تعقب أماكن الإرهابيين وتحركاتهم، فضلًا عن وضع سياسات أمنية موحدة ومتطورة لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة بنسخهم الجديدة، التى تظل عابرة للدول والحدود وقادرة على صناعة التهديد، طالما أن هناك عديدًا من الأطراف ما زالت تراهن عليها وترى فيها فوائد يمكن تحقيقها. وهذا يمثل تحديًا آخر لفت انتباه المجتمع الدولى مؤخرًا بشكل إيجابى نسبيًا، لكن تظل المنطقة فى ظل ضعف إمكاناتها تحتاج إلى دعم دولى مضاعف كى تحاصر الظاهرة، التى تضرب مساحة هائلة من قارة إفريقيا بالفوضى وعدم الاستقرار، والقدرة على نقل هذا التهديد إلى دول الجوار التى نقع نحن فى الشمال الإفريقى على قائمة تلك المناطق المرشحة للخطر.