رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عباس بيضون: لبنان فقد أسباب وجوده.. والنشر فى مصر يختلف عن أى بلد عربى آخر

عباس بيضون
عباس بيضون

لا يحتاج عباس بيضون إلى جائزة أو تكريم ليسعى الصحفي لإجراء حوار معه. فللكاتب اللبناني رصيد أدبي كبير موزّع بين الشعر، الذي هو الوطن الأساسي لبيضون، ثم السرد، أو الرواية، التي جاءت لاحقة على الشعر في تجربة صاحب "ألبوم الخسارة".

بالطبع لا يحتاج الكاتب اللبناني المولود في 1945 في مدينة صور إلى جوائز أو تكريمات ليصير محل اهتمام، فبيضون سبق له وأن حصد جوائز عالمية، على رأسها جائزة "المتوسط" في الشعر، عن "الموت يأخذ مقاساتنا"، وفازت روايته "خريف البراءة" بجائزة الشيخ زايد، كما فازت الترجمة الإنجليزية لروايته "تحليل دم" بجائزة جامعة أركنساس الأمريكية.

عباس بيضون الذي أصدر أكثر من 15 ديوانًا شعريًا، أنتج في السنوات الأخيرة عددًا لا بأس به من الكتب السردية والروايات. وأنجز في الحقلين كتابات مميزة وفريدة.

عاين صاحب ديون "الحداد لا يحمل تاجًا" عبر سنوات عمره كل أطوار بيروت: صعود المد القومي، الحرب الأهلية، الاجتياح الإسرائيلي، زمن الفصائل والأحزاب والمجازر المتناثرة هنا وهناك... سنوات طويلة مضت حتى وصلنا إلى انفجار مرفأ بيروت. اللحظة التي زلزلت لبنان وأفاقته على جرحٍ غائر. ربما يتحوّل إلى نقطة انطلاق مركزية للكثير من الروايات اللبنانية. مثلما كانت الحرب الأهلية نقطة مركزية في السرد اللبناني.

عن الرواية والشعر، عن بيروت والقاهرة.. وجّهت "الدستور" أسئلتها لعباس بيضون، فكان هذا الحوار:

◄ وصفت الشعر بأنه "فكر الفكر".. فكيف تصف النثر والرواية؟

الشعر بالنسبة لي هو قبل كل شيء نوع من الفكر. لا أريد أن أستبعد هنا ما يقال فيه إنه صور وإنه لغة وإنه تخييل، إذ كيف نفصل كل هذه عن الفكر. أقول إنه نوع من الفكر وأعني أنه الفكر وقد استدق وتروّس وأضمر وتحول إلى إشارات وإلى صور وكلمات. بالطبع لا يختلف هذا عن الغناء، إذ يبقى الشعر غناء، لكنه هنا لا ينفصل عن الفكر، إذ الغناء الذي لا يرجع ويوقع فكرا لا يكون شعرا إلا بمقاييس دنيا أو لا يكون شعرًا إلا بمقياس عامي، أي أنه في هذه الحال رطانة شعرية أو إنشاء شعري أو "شعرنة" فحسب. لا يعيش شعر كهذا طويلا ولا يترك دمغة. إنه فقط ترجيع ولا ينقذه أن يكون مجرد لعب إيقاعي أو تخييلي. الشعر هو حين يرشح كل ذلك بفكر يعمقه ويجعله، على نحو ما، احتمال حقيقة أو إيعاز بحقيقة أو لعبة حقيقة. الشعر هو تماما هذا الكلام الذي يتزين بالحقيقة ويحمل في داخلها تململها والتباسها وتناقضها. إنه الكلام الذي يوعز في كثافته وتروّسه وإضماره بأنه الكلام الأخير، أو الكلام وهو على حافة الصمت، أي على حافة التحلل من لفظه وترسله، أي على حافة الحقيقة. ذلك بالطبع لا يعني أنه الحقيقة، بقدر ما يعني أنه تشكيل مزعوم لها. إنه الكلام وهو يتفانى ليؤكد ما يتخطاه، ليطل على ما يتجاوزه، على ما هو استدعاء للصمت. على ما يسميه هايدغر "إصغاء"، وإذا استطردنا في هايدغر فإننا نتذكر قوله عن إصغاء للآلهة المهاجرة، فإننا نقترب هنا من ما يمكن اعتباره فكر الشعر، أي الفكر كدمغة للكلام وسعي له أو تشكيل له. إنه، بمعنى آخر أشكال للفكر، أو هو الفكر حين يظهر كنهاية للكلام. أو كشكل فكري أو كفكر في إيقاع أو في صورة أو في غناء. الشعر الذي أحبه، أو الشعر الهام إجمالًا لا يخرج عن هذا. أستطيع أن أعدد لكني أكتفي هنا بمثالين من الشعر الألماني: هولدرلين وريلكه، يمكنني أن أزيد الكثيرين، إذ أحسب أن ما أقوله ينطبق حصريًا على كل الشعراء المهمين.

أن أقول إن الشعر فكر الفكر فإن عذا يعني أن يكون الشعر هو الفكر في لفظه الأخير في فنائه الذي يكون به شكلا وإيقاعًا، أي يحمل هذا الإصغاء للآلهة المهاجرة.

◄ تقول في أحد حواراتك الصحفية: "الشعر الذي كان غناءً واحتفاءً بالحب والأشياء يتحوّل إلى عكسه، أي إلى نثر. فالشعر في الأصل غناء، والنثر في الأصل سلبي قائم على النفي، وتحوّل الشعر إلى نثر ليس متعلقًا فقط بالأوزان أو الأشكال، بل هذا التحوّل يتبنّى مفهوم النثر بأن أصبح تشاؤمًا وسلبًا ونفيًا".. هل تفسر هذه المقولة غزارة إنتاجك النثري والسردي خلال آخر 10 أعوام مقارنة بدواوينك التي كان آخرها "الحداد لا يحمل تاجا" في 2019؟

السؤال في صيغته يكاد يحمل جوابه، نعم قلت في معرض الكلام عن قصيدة النثر، إنها تنصرف عن مفهوم الغناء في الشعر، الذي يحمل حصرا هذه التسمية، والذي هو تغن بالعالم بما هو مديح له، أي بما هو إيجاب. الحب، على هذا مديح للحب. بالطبع لا أعني بالمديح المفهوم الاصطلاحي للكلمة. أعني أنه نعم كبيرة للكون، أنه إيجاب كبير. هذا بالطبع لا ينكر مأساويته التي هي أيضا نوع من المديح وبهذا المعنى إيجاب أيضا.

النثر الذي هو جناح آخر لقصيدة النثر، والذي هو أقرب إلى السلب وإلى النفي. النثر يشتغل على التهافت. هذا هو النثر في قصيدة النثر التي هي لذلك قصيدة إنكار ونفي. هذا هو تقديمي لقصيدة النثر التي هي بموجبه ليست خالصة للشعر. وليست شعرًا بحتًا. لا أعرف إلى أي مدى يوافقني شعراء نثر يذهبون إلى أن قصيدة النثر شعر أكثر من الشعر.
أما ما هي علاقة هذه المقاربة بكتابتي للشعر، فأنا لم أوردها كنظرية لشعري أو نتاجي الخاص. إنها تأمل عام ومقاربة لأنواع أدبية، لا أظن أنني مالكها أو نموذجها. لا أعرف إذا كنت فعلًا أكثرت من الإنتاج الشعري في السنوات العشر الأخيرة. فقد مرت علي خلال هذه الفترة أحيان، خلت فيها أن الشعر هجرني، فأنا أحسب أن الشعر هو الذي يختارنا ويواتينا ساعة يشاء، ثم كنت أتفاجأ بعودته.

لي مجموعة قيد النشر بعنوان (الحياة تحت الصفر) وكنت سكتت سنتين قبلها عن الشعر.

◄ كما قلت في أحد حواراتك " لا أستطيع أن أتخيّل كتابة فرحة في أيّ لغة كانت".. ألا ترى أن هذا ينفي تيارًا كاملًا في الكتابة.. قائمًا على السخرية والمرح والخفة؟ قد نضرب أمثالًا لذلك بعض روايات محمد مستجاب مثلا وغازي القصيبي وحتى أسامة الدناصوري الذي طرح مأساته الصحية في "كلبي الهرم.. كلبي الحبيب" بشيء من المرح والخفة؟

دعني أقول إنني حين صرحت بأنني لا أحتمل كتابة فرحة، لم أكن أضع نظرية. كنت فقط أرجع إلى مزاجي. مع ذلك كنت أعني بالكتابة الفرحة على الأغلب الكتابة الإيجابية المتفائلة، التي مثالها الأكبر هو الوعظ والعبرة الأخلاقية. هذا بطبيعة الحال لا صلة له بالسخرية، التي هي في نماذجها الأهم سوداء وما فيها من ضحك هو أيضا أسود، وهي بطبيعة الحال ذروة السلب والإنكار. هذه السخرية السوداء قد تكون غالبًا من ذرى النثر، وهي بطبيعة الحال قمة في السلب والإنكار. النماذج التي أوردتها لا تخرج عن ذلك وليست بطبيعة الحال عظات ودروسا أخلاقية، بل هي أبعد ما يكون عن ذلك.

◄ لا تزال حقبة الطوائف والفصائل والأحزاب والحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي ملهمة للروائيين اللبنانيين.. سواء كحدث مركزي أو كخلفية للقص.. هل سيشكل الحراك اللبناني الذي اندلع في 2019 نقطة مركزية جديدة للرواية اللبنانية؟

لا أستطيع أن أجزم. الحرب اللبنانية دامت زمنا طويلا استنفد شباب روائيي تلك الفترة، والحرب اللبنانية أعادت طرح السؤال اللبناني من جهات أخرى. وأتاحت لثقافة أخرى يسارية في الغالب، أن تقدم نقدا جديدا. أظن أن حراك ١٧ تشرين يحمل بداية ثانية، لكن هذه تحمل هذه المرة رؤى تكاد تكون غرائبية وعدمية. لا بد أن أدبا آخر بدأ معها وقبلها. هناك شعر شاب، وأظن أن رواية أخرى على الطريق، ربما هناك تشكيل جديد. ثمة ثقافة من نوع آخر أظن أنها ستتدفق.

◄ كيف عشت لحظات انفجار مرفأ بيروت.. وإلى من بنظرك تشير أصابع الاتهام؟

انفجار بيروت لا يزال يتكرر. كان علينا أن نمضي هذه المدة، وأكثر منها لنصدقه. في البداية كان أكبر منا ومن البلد لدرجة أننا لم نصدقه، لكنه كان بداية استفظاع، بدا أن كل شيء، فيما بعد، يؤكده ويبني عليه. كان الانفجار، بدرجة ما، غرائبيا وأكبر منا. لكننا بعده أخذنا نكتشف أننا في واقع لا يقل غرائبية. أخذنا نكتشف أننا كنا نعيش في طلاسم وربما خدع كاملة. وأن حياتنا جميعها أعجب من أن تكون حقيقية، وأن ما نعيشه هو اللا حقيقة المطلقة. أظن أننا حينذاك خفنا من أنفسنا وفوجئنا بها. لم نصدقها واقتضى ذلك وقتًا لنعرف أن افتضاحًا كاملًا يشمل كل حياتنا. وأنها بمجملها انفجار دائم ويومي متعدد. الانفجار هو الآن طلسم، لكن حياتنا كلها طلسم ونحن نتخبط فيه ولا نراه بوضوح. إنه تقريبا أعمانا. كنا نظن أن لنا حياة ولنا أيضًا واقع. الآن نعرف أن كل ذلك كان قريبًا من الوهم، ليس وهما تماما بقدر ما هو غربة كاملة عن كل ما هو أنفسنا وحقيقتنا. الانفجار يتكرر الآن كل يوم وفي كل ناحية بل هو يتعمق ويغدو أكثر فأكثر معنانا ومستقبلنا. لا نعرف الآن أو أننا نعرف أن ما كان مجتمعا ودولة وبلدًا، وبالطبع معيشة وسيرة وإطلالة كذلك ليس أكثر من لطخ وأكاذيب. كنا نتمرغ في أكذوبة هي الآن نحن وما قبلنا، وما بعدنا.

◄ اخترت أن تنشر "علب الرغبة" في دار "العين" في القاهرة بعد سنوات من التعامل مع "الساقي".. لماذا؟ وأي قيمة ثقافية وتاريخية تمثلها لك مصر والقاهرة؟

أظن كما قال لي صديقي الروائي حسن داوود إننا لا نكون ننشر حقا حين لا ننشر في مصر. هذا ما يتكشف اليوم ولم يكن واضحا من قبل. في مصر وحدها ولا أعرف كيف ينطبق هذا على بلد عربي آخر قد يكون المغرب يمكن أن نفكر بأن النشر وربما الكتابة أيضا يمتلكان هنا فضاء، مؤسسة وسوقا ومجتمعا. أفهم هكذا ماذا كان يعنيه حسن. بمصر الكتاب المنشور لا يقع في الفراغ. إنه ليس حدثا استثنائيا ولا طفرة. أن له ما وراءه وما بعده. إن له مكانا ووسطا. هذا الآن أكثر جلاء. في مكان آخر، حتى ولو عند عاصمة للنشر، مثل لبنان. يبدو الكتاب ابن حرفة ضيقة وليس نتاجا للسوق. في مصر هو ابن حرفة ولكنه أيضا ابن تقليد ثم لا ننسى أن مائة مليون عدد وازن بجعل لكل أقلية، ولو كانت النشر، فضاء.

◄ ثمة أجيال شابة ظهرت في الشعر والرواية في لبنان.. من لفت نظرك منهم؟ هل هناك بينهم سمات مشتركة؟ وهل تؤمن بمفهوم المجايلة الأدبية؟

لا أريد أن استبق الزمن. أعرف كثيرا من شعر الشبان. هنا جيل جديد من الشعراء ولهم ما يمكن أن نسميه حساسية جيل، وهناك حتى خواص أسلوبية متقاربة. لا أعرف بالقدر نفسه عن روايات الشبان. طالعت بعضها، لكن هذا القليل لا يكفي. أظن أن هذا الجيل يملك من هذه الناحية مراجعه واتجاهاته. لا أستطيع منذ الآن أن استطلعها، لا أفهم في أي وجهة يتكون. لكني مطمئن إلى أن تجربة خاصة ومغامرات أخرى على الطريق.

◄ إلى أين يتجه لبنان المشطور بين الأزمات الطائفية والاستقطاب والوضع الاقتصادي المأزوم؟ وهل تتوقع دورًا لأطراف خارجية؟ أم أن الحل من الداخل؟

لبنان الآن في وضع لا نستطيع أن نستشف منه شيئا فالبلد الذي كان في درجة من البحبوحة، بفضل اقتصاد وسياسة وصلات بالخارج، وجميع هذه شبه وهمية. هو الآن وقد انكشف كل ذلك في وقت قصير. يبدو الآن وكأنه لا يملك شيئًا. في وقت قصير بدا متسولا ومهجورا ومصدعا وبدون سبيل إلى شيء في الداخل ولا الخارج. إنه الآن أمام سؤال يتناول وجوده وكيانه وبالطبع مستقبله. الآن يبدو البلد العربي الأول الذي بات بدون سبب وجود. أو فقد، وتقريبا إلى الأبد، سبب وجوده. هو الذي كان بين الدول العربية القليلة التي تبدو ذات مشروع، وبين الكيانات القليلة التي تملك بداية دولة وبداية مجتمع، انهار كل ذلك فوقه وسقط هو تحت امتيازاته ومقوماته، فبدا مشروعا فاشلا يدفع دون غيره ثمن فشله.. لقد حمته تعدديته من الانقلابات كما حمته من الفقر فبدا لعقود جنة ما لبثت أن ظهرت ضعيفة وانهارت من داخلها. لقد بدا ما كان يعتبر تقدمه هشا ومسرحيا وكاذبا. لم يصمد تعدده أمام حروب أهلية. لم تصمد ديموقراطيته أمام عنف الطوائف وصعود الميليشيات. لم يصمد اقتصاده ولا دولته أمام غزو المحيط. مشروعه أيضا لم يصمد أمام اقتحامات الخارج. هو الآن أمام تحديه لنفسه، أمام تحديه لمشروعه. أمام تراجعه الفظيع عن نفسه. وفجأة يحل التعب ويحل الخوف من الحقيقة الخاصة ويبدو أن البلد لم يعد يستحق كل هذا الجهد.

يستولي اليأس والرعب من الذات على المشهد ولا يبقى سوى انتظار تدهور آخر في سياق من الهبوطات إلى حضيض لا قياس له.

◄ ختامًا سؤال عن الشهيد لقمان سليم.. كيف رأيت عودة الاغتيالات؟.. وهل سيرجع حق لقمان سليم؟

لقمان الصديق الذي شكل على الدوام استثناء وفرادة في حياتنا اغتيل بعد فترة من انقطاع الاغتيالات. هذا بالطبع خطر على الجميع. لا نعرف الآن الوضع اللبناني قابل لذلك. كان قابلا وما زال. الوضع اللبناني قابل لأي احتمال ولأشد الاحتمالات فظاعة. لا نعرف حدود ذلك أو دلائله أو معاييره. هذا يبقينا في حال من التوجس الدائم. لم تكن هناك أي عدالة وأي قصاص للاغتيالات الكثيرة التي تتابعت في الماضي القريب ولا أظن أن قضية لقمان ستخرج عن ذلك النطاق.