رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحرُّش الأمريكى بروسيا والصين


على عكس كل التوقعات التى تفاءلت بأن رحيل «دونالد ترامب»، بما كان يُمثله من نزقٍ وتعصُّب، وحِدَّة فى الطباع والتصرُّفات، سيكون بداية عهد جديد من الانفراج والهدوء والبُعد عن عُنف السلوك وعشوائية ردود الفعل، فاجأ العَالم سلوك الإدارة الجديدة، التى يقف على رأسها «جو بايدن»، حتى لا نقول صدمه بمواقف عنيفة ومتطرفة فى مواجهة دولتين كبيرتين، أو أكبر قوتين دوليتين «خلاف الولايات المتحدة»: الصين وروسيا!
وبعد أن استبشر العالم بعهد من التهدئة والتصالح والبحث عن مخارج تقى الكون شر التصعيد والأزمات، إذ بنا أمام موجة صاعدة جديدة من التصادمات اللفظية، تعبر عن اتجاهات متنامية لنشر جو من التوتر والاحتقان، تقف خلفه مصادر أمريكية لها مصالح كبرى فى دفع العالم مُجددًا، إلى أتون الأزمات وحافة الهاوية!.
ولعل من المُفيد فى هذا السياق، أن نُراجع بعضًا من أوائل تصريحات وزير الخارجية الأمريكى الجديد «أنتونى بليكن»، الذى تولى المسئولية بعد «مايك بومبيو» الوزير السابق فى إدارة «ترامب».
فهو حتى قبل أن يتسلَّم حقيبة الخارجية الأمريكية بشكل رسمى أعلن عن جانب مُهم من توجُّهات إدارة «بايدن» فى تصريحه «يوم ١٩يناير الماضى»، ونصّه أن: «ترامب كان مُحقًا فى اتخاذ موقف مُتشدد ضد الصين»!، ثم عاد، وفى أول خطاب له من مقر وزارة الخارجية، لكى يُكَرِّر الاتهامات التى سبق وأن وجهتها إدارة «ترامب» للصين، ويلوِّح بانتهاج نفس الإجراءات التى سبَّبت مُشكلات اقتصادية وسياسية عصيبة، إذ رغم الديباجة المُعتدلة لخطابه، التى تتحدث عن نيّة إدارة الرئيس الجديد: «اعتماد «النهج الدبلوماسى» بدلًا من العمل العسكرى فى تعاملها مع الأزمات الدولية»، ورغم إعلانه أن «بايدن» لا يرغب «فى إرساء الديمقراطية فى العالم من خلال التدخُّلات العسكرية المُكلفة، أو بمحاولة الإطاحة بأنظمة مُستبدة بالقوة»، فى إشارة إلى السلوك الأمريكى العدوانى فى السابق، تجاه شعوب العراق وليبيا وفنزويلا وغيرها، إلّا أنه عاد يدق طبول الحرب فى مواجهة الصين، بقوله إن «الولايات المتحدة مُستعدة لمُجابهة الصين متى دعت الحاجة»، والتصريح بأن إدارة الرئيس الجديد ستقوم بإدارة ما وصفه بـ«أكبر تحدٍ جيوسياسى فى القرن الحادى والعشرين: علاقتنا بالصين».
وادَّعى «بليكن» فى خطابه أن الصين هى «الدولة الوحيدة ذات القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، التى من شأنها أن تُهدد جديًا المنظومة الدولية المُستقرة (!!)، وجميع القواعد والقيم والعلاقات التى تجعل العالم يسير كما نريده»!
وأنهى «بليكن» خطابه مؤكدًا أن علاقتنا، أى علاقة الولايات المتحدة، بالصين، ستكون تنافسية عندما ينبغى لها أن تكون كذلك، ومتعاونة متى ما تكون قادرة، ومُخاصمة عندما يجب أن تكون، وسوف نتحاور مع الصين من موقع قوة!» جريدة «الأهرام»، ٤ مارس ٢٠٢١.
ولأن الصين تتحدى رغبة أمريكا المحمومة بأن تجعل «العالم يسير كما نريده»، فبعد هذا الخطاب بنحو أسبوع واحد، حذَّرَ الأدميرال «فيليب ديفيدسون»، قائد القوات الأمريكية فى منطقة المُحيطين الهندى والهادى، من أن «الصين قد تغزو تايوان فى غضون ست سنوات (!!)، وأشار إلى أن ذلك قد يحدث لتُحقِّق الصين هدفها المُعلن بالحلول محل الولايات المتحدة كأكبر قوة عسكرية بالمنطقة!»، جريدة «الأهرام»، ١١ مارس ٢٠٢١.
وإزاء هذه التحديات والمخاطر العنيفة التى لا تحتمل التأويل، وأمام هذه التهديدات الخافية والمُبطنة، والصريحة والمُعْلَنة، التى لا يمكن إغفالها، كان من الطبيعى والمنطقى أن يأتى الرد، ومن أعلى المستويات السياسية والعسكرية، على نفس الدرجة من القوة والصراحة.
فقد دعا الرئيس الصينى «شى جين بينج» جيش بلاده لأن يكون «جاهزًا باستمرار فى مواجهة عدم الاستقرار والشكوك»، وذكر فى اجتماع مع الوفد العسكرى بمجلس الشعب الوطنى، فى دورته السنوية الشاملة أنه على «القوات المُسلحة بأكملها أن تكون مُستعدة دائمًا للتعامُل مع جميع المواقف المُعَقَّدة والصعبة»، «المصدر السابق».
لكن التحرُّش لم يتوقف عند حد «جر شكل» الصين وحسب، بل امتد إلى استفزاز الدب الروسى، بالتصعيد فى مسألة اتهام روسيا بمحاولة تسميم المُعارض «أليكسى نافالنى»، ومحاولة استغلالها لتطويق روسيا، وإشغالها فى مواجهة سيل الاتهامات الموجهة لها، وهو ما دفع وزارة الخارجية الروسية إلى إصدار بيان حاد للرد على الاتهامات الأمريكية، ندَّدت فيه بما وصفته بـ«هجومٍ مُعادٍ ضد روسيا، يأتى ضمن سياسة أمريكية خالية من المنطق والمعنى، ولا تؤدى إلَّا إلى الإضرار بشكلٍ إضافى بالعلاقات الثنائية مع موسكو»، ومُحَذِّرة واشنطن من «اللعب بالنار»!.
ومعنى ما تقدَّم، أن «السياسات العُليا»، أو الـ«Grand Politics»، للدول الكُبرى، وللصُغرى النابهة أيضًا، تُحَدِّدها مصالح الدولة الاستراتيجية، وتحالفاتها الأساسية، ولا تتغير بحاكم يمضى، أو آخر يجىء.
وعلى ذلك يجب أن توضع الحسابات، وتُرسم الخطط.