رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى أين تذهب إثيوبيا؟!



فترة ليست بالقصيرة؛ مرت فى حالة التعتيم الإعلامى المزدوج على ما يجرى من أحداث فى إثيوبيا، الازدواج متمثل فى حصار كامل وصارم من قبل السلطات الإثيوبية على كل وسائل الإعلام، التى يمكن وصفها بالمستقلة أو الدولية التى يمكنها نقل وقائع وأخبار ما يجرى على الأرض، حتى يمكن فى مرحلة لاحقة تناولها بالتحليل من قبل المتخصصين، ومن ثم التعليق عليها من ذوى الشأن.
وعلى جانب آخر تلاحظ أن الاهتمام الدولى بما يجرى هناك ربما فى أدنى مستوياته، رغم خطورة وفداحة ما يجرى من أحداث، حتى بدا مشوبًا بقدر واضح من التجاهل المتعمد، لحد تمرير أحداثه الإنسانية دون التفات يليق بوقائع حقيقية مثبتة شهدت مساحة عريضة من الانتهاك.
هذه الفترة يبدو أنها مرت بإطارها الغامض، لتبدأ صفحة جديدة من الاهتمام الدولى، تتشارك معنا فى استشعار القلق مما قد تؤدى به الأحداث، التى دأب النظام الإثيوبى على تزييفها، واصطناع رواية ومصطلحات بعيدة كل البعد عن الواقع الماثل على الأرض. فلم تجد مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية الشهيرة فى ظل حالة الحصار والتعتيم المشار إليهما، سوى نشر مواد وتحليلات سابقة ظهرت على قائمة موضوعاتها الرئيسية خلال عام ٢٠٢٠، واتجهت إلى أن تضع لـ«الملف» عنوانًا يعد بمثابة الرسالة الحديثة التى تصف بها ما يجرى. «هل تصبح إثيوبيا هى يوغسلافيا القادمة؟»، التساؤل مشروع ومشحون بالدلالات والرسائل التحليلية، فالنظرة المدققة تكشف عن مستقبل قاتم للدولة الإثيوبية، يستلزم التحذير من خطره المتمثل فى التفكك والانقسام المخضب بالمجازر والتطهير العرقى على الطريقة اليوغسلافية.
الملف المهم الذى نشرته «فورين بوليسى» اشتمل على خمسة موضوعات كتبت سابقًا، لكن المقدمة التى تصدرت الملف هى تقدير موقف حديث، فما بدأت به؛ أن البلد الذى بدا ذات يوم على أنه يحمل وعودًا كبيرة لتحقيق الديمقراطية السلمية، قد انزلق سريعًا إلى الصراع.
فرئيس الوزراء الإثيوبى أبى أحمد الذى كان فى أوسلو ديسمبر ٢٠١٩ متسلمًا جائزة نوبل للسلام، بعد أقل من عام؛ كان يقود القوات الإثيوبية فى معركة ضد الحزب المهيمن سابقًا فى البلاد «جبهة تحرير شعب تيجراى». ولعل أبرز ما جاء فى طيات الملف التحليلى بداية، تفسير درجة التقارب الإثيوبى مع الحالة اليوغسلافية، فمع اندلاع الحرب فى إقليم «تيجراى»، وبمجرد أن يصبح العنف هو الوسيلة لمعالجة الخلافات، يصعب إيقافه وتتصاعد مطالب الحكم الذاتى بسرعة نحو المطالبة بالاستقلال كما حدث فى الأيام الأولى من الانقسام فى يوغسلافيا. وفى حالة إثيوبيا ومع وجود ١١٠ ملايين نسمة، فإن النزاعات المحتدمة قد تجتذب العديد من جيرانها، ولذا تظل المخاطر فى إثيوبيا كبيرة على دول جوارها فى القرن الإفريقى بكامله. فهذا العدد الكبير من السكان يسبح على مظالم عرقية كامنة لم يتم حلها بعد، والنظام الفيدرالى الإثيوبى مصمم فى الأساس على مواءمة العرق بشكل غير كامل مع الأرض، لذلك بدت مجموعة من العلامات المشئومة مثل التطهير العرقى بالأقاليم وتجزئة المنافسة السياسية والمناصب على أسس عرقية، مما يجعل المواجهة بين الحكومة الفيدرالية و«التيجراى» لا تبشر بالخير للبلاد. هذه المعضلات هى التى جعلت التحليل الأمريكى، يحدد أربعة مخاطر رئيسية باعتبارها المهددات الأهم للدولة الإثيوبية، الهوية العرقية باعتبارها المرجعية السياسية الوحيدة المعتمدة حتى الآن، ثم الهجمات المسلحة الواسعة ذات الدوافع العرقية بالأساس، ومن ثم الصمت والتقاعس من قبل السلطات المحلية إزاء تلك الانتهاكات الفادحة، ويبقى فى النهاية نذر التفكك ممثلًا فى قضية تقرير المصير التى ربما تشكل العنوان الأشمل لصراع السلطة الفيدرالية مع «إقليم تيجراى». هذا المهدد الأخير يجعل العديد من الأطراف الدولية والإقليمية بصدد بذل الجهد، فى اتجاه منع تفكك النظام الفيدرالى الذى يواجه اليوم أزمة شرعية عميقة، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان مع إفلات ممنهج للمسئولين من العقاب أو المساءلة، خاصة فى قضايا القتل والتشريد التى طالت أعدادًا بالآلاف فى كل أقاليم الدولة، وتظل مغلفة بالتواطؤ الرسمى تحت سمع وبصر الجميع دون رادع أو عقاب. حتى إن تحليل «فورين بوليسى» وصف المجموعات المحيطة برئيس الوزراء فى أديس أبابا، بالحالمين الذين يعيشون فى واقع بديل ويتمتعون بأصوات عالية قادرة على تزييف الحقيقة، حيث يعتمدون فى ذلك على المساعدات القليلة من الخارج بهدف وقف التدهور الحالى، من أجل ضمان بقاء إثيوبيا فى مخيلة العالم باعتبارها قصة نجاح، فى وقت تحث فيه السير على خطى يوغسلافيا الدموية.
ملف مجلة «فورين بوليسى» احتوى على مقالة مهمة لـ«هايلى مريام ديسالين» رئيس الوزراء السابق قبل أبى أحمد مباشرة، وتكتسب أهميتها كونها على خلفية عرقية تبرز أن «التيجراى» ليسوا طرفًا مظلومًا من قبل السلطة الفيدرالية، بقدر ما هم صناع أصليون لتلك الفوضى العارمة فى المشهد الإثيوبى، ويكيل الاتهامات لهم فى كل اتجاه لتكتمل الصورة بتلك المقالة عن معضلات ما جرى ويجرى الآن، فهو يصفهم بداية بالمشروع الإجرامى الذى يتلاعب بالمجتمع الدولى، بغرض الوصول إلى تقاسم السلطة ما يوفر لهم الإفلات من العقاب.
ويشن «ديسالين» هجومًا مريرًا على كل الداعين إلى سبل التفاوض من أجل حقن الدماء، باعتبار أنه لا يوجد تكافؤ أخلاقى بين الطرفين على حد تعبيره، وأن عادة المجتمع الدولى أنه يدعو إلى حوارات سطحية تنتهى دائمًا باتفاقيات تقاسم للسلطة، التى تتم فيها مكافأة الجهات المارقة والمحرضة على العنف. يصف القيادى السياسى الإثيوبى الذى تولى المنصب الأرفع فى البلاد المشهد على هذا النحو، متغافلًا بالطبع كون «الجبهة» وعرقية «التيجراى» هما من صممتا هذا النظام الحاكم برمته طوال ثلاثين عامًا مضت، فالأرض التى يقف عليها ديسالين اليوم متحدثًا هى من صناعة التيجراى وقياداتهم. والمشهد الدموى والتفكك الذى يلوح فى الأفق هما من صناعة جميع فرقاء اليوم دون استثناء، فكما تتهم «جبهة تحرير التيجراى» الحكومة الفيدرالية بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقد وثق العديد من المراقبين ممن تمكن من التسلل إلى ساحات الصراع، ما جاء باتهام «الجبهة»، بل وحددت مواقع للمقابر الجماعية التى شهدت على الأمر.
اليوم رئيس الوزراء السابق يأتى ليضع ذات التهمة فى رقبة عرقية «التيجراى» بكاملها، على اعتبار أنها ارتكبت عمليات إبادة بحق آخرين من عرقيات مختلفة، فى مناطق تسيطر عليها وفى أخرى من التى تشهد نقاط تماس مع عرقيات أخرى، ليصير المشهد على نحو ما ذكره «ديسالين» مكتمل التوصيف كما جاء بعنوان الـ«فورين بوليسى» الدال على مدى ما تواجهه إثيوبيا اليوم وما تسير إليه فى مستقبلها المنظور.