رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عرفت الأستاذ نجيب محفوظ


التواضع والبساطة والعمل الجاد، هى أهم سمات عرفتها فى الأستاذ نجيب محفوظ، رحمة الله عليه، الذى سيظل خالدًا فى تاريخ الأدب العربى، حيث خطرت لى بعض الذكريات العزيزة معه بمناسبة عيد ميلاده الـ١٠٩، التى تحل فى ١١ ديسمبر من كل عام.
لقد سعدت جدًا باحتفال صحيفة «الدستور» بيوم مولده على صفحاتها منذ أيام، ما يحيى ذكراه لدى الأجيال الجديدة من الأدباء الذين لم يتسن لهم معرفته أو معاصرته أو التعرف إليه عن قرب، كاتبًا فذًا، وإنسانًا متواضعًا وخيّرًا.
ورغم عبقريته الفذة، ورغم حصوله على أرفع جائزة عالمية فى الأدب سنة ١٩٨٨، ورغم أنه فى تقديرى أهم روائى عربى فى تاريخ الأدب العربى، ورغم كل المجد والشهرة والموهبة الفريدة هذه، فإننى، حسبما رأيته وعرفته والتقيته مرارًا، أقول إنه لم يتخل عن تواضعه مع الكبير أو الصغير يومًا، ولم يتخل عن بساطته فى المظهر، ولم يتخل عن قدرته على العمل الجاد، وحرصه على مواصلة الكتابة الأدبية حتى فى أصعب لحظات حياته وأخطرها.
ورغم ما واجهه من هجوم شديد فى مراحل عديدة من حياته بسبب كتاباته التنويرية والواقعية، فإنه كان شجاعًا فى كتاباته، ورواياته الكاشفة للواقع فى الحارة المصرية، والبيت المصرى، وكان فى غاية الشجاعة والجسارة فى التصدى لأفكار جماعات الظلاميين الذين حاولوا اغتياله، لكنه نجا منهم بأعجوبة فى ١٩٩٤، واستمر يعمل ويعبر عن رأيه ويبدع حتى وفاته سنة ٢٠٠٦.
وأتذكر الآن ٣ مواقف تقفز إلى ذهنى خاصة بالأستاذ، فرغم أنه فى روايته «بين القصرين»، والفيلم المأخوذ عنها شخّص لنا شخصية «سى السيد» الذى يقهر الزوجة والأبناء فى البيت، فإن الأستاذ الكبير كان ذا عقلية مستنيرة، يدعم ويحترم المرأة إذا رأى أنها ذات موهبة أو كفاءة.
وقد حظيت بشرف تشجيعه لى منذ بدايات مشوارى الأدبى مع نشر مجموعتى القصصية الأولى ١٩٨٤، ومنذ بداية عملى بـ«الأهرام اليومى» ككاتبة للقسم الثقافى سنه ١٩٨٤، التى نشرت فيها عدة قصص لى قبل انضمامى إلى أسرة التحرير بها، أثناء تولى الأستاذ الراحل إبراهيم نافع رئاسة التحرير، حيث كان مكتب الأستاذ نجيب محفوظ بالدور السادس ببرج كبار الكتّاب، وكان مكتبى على مقربة منه بالدور السادس أيضًا.
وإنه لشرف كبير أن تعرف الأستاذ نجيب شخصيًا، وأن تتحدث معه، وأن يحدثك، وأن تتمكن من الجلوس معه، وكان لى هذا الشرف الكبير، ومن المؤكد أن كل من عرف الأستاذ قد تعلم منه شيئًا، وأيًا كانت علاقتك به، فإن كلماته لا تنسى، وحين يحل شهر ديسمبر فإننى أتذكره بكل خير وبكل اعتزاز، حيث كان فى مقدمة من دعمونى وشجعونى.
ولا أنسى مطلقًا أنه ذات يوم قال عنى: «إننى كاتبة وقصاصة جيدة»، وذلك حينما قرأ مجموعتى الأولى، وكان مكتب الأستاذ، كما أشرت، بالدور السادس بجوار مكتب الأديبين الكبيرين: د. يوسف إدريس، وثروت أباظة، وكنا على مقربة من برج كبار الكتّاب، حيث كان مكتبا الأستاذ نجيب محفوظ والأديب توفيق الحكيم متجاورين، وكان الأستاذ توفيق الحكيم يدعونى إلى مكتبه ظهر كل سبت من كل أسبوع، حيث ألتقى فى مكتبه الكبير الواسع قممًا وعمالقة مصر.. فى الأدب والفن، وفى مقدمتهم الأستاذ نجيب محفوظ، والأستاذ إحسان عبدالقدوس، ود. يوسف إدريس، ويوسف جوهر، وثروت أباظة، وصلاح طاهر، ود. حسين فوزى.
ويومًا ما سأروى كثيرًا من ذكرياتى مع قمم وعمالقة الأدب والفكر فى مصر، والذين حرص الأستاذ محمد حسنين هيكل على أن يخصص لهم برجًا مستقلًا بهم فى الدور السادس، حرصا منه واعتبارًا بأنهم درة التاج، ومصدر الإبداع وقيمة وقامة واعتزاز لصحيفة «الأهرام».
ثم تشاء الصدف أنه بعد رحيل الأساتذة الكبار، وبعد تولى الأستاذ عبدالعظيم حماد رئاسة التحرير فى شهر مارس ٢٠١١، وذلك بعد أحداث ٢٥ يناير، أن يكون مكتبى بعدها بعدة شهور فى مكتب الأستاذ توفيق الحكيم ببرج الكتّاب، وظللت فى هذا المكتب التاريخى بذكرياته الاستثنائية حتى وصول جماعة الظلاميين إلى الحكم طوال عام كامل، حيث تركت مكتبى بسبب تعيين عضو جماعة الإخوان فى مجلس الإدارة ورئاسة التحرير، وتم إقصائى من صحيفة «الأهرام» بسبب مقالاتى المستنيرة.
وفى يناير٢٠١٣ انتقلت للكتابة فى صحيفة «الدستور» العزيزة التى ما زلت أعتز بأننى من كتّابها حتى اليوم فى ظل قيادة الكاتب الصحفى والإعلامى القدير د. محمد الباز، الذى أعتز بقيادته المستنيرة لـ«الدستور»، وكنت ألتقى الأستاذ نجيب محفوظ فى صالون مكتب الأستاذ توفيق الحكيم أسبوعيًا كل يوم سبت فى الواحدة ظهرًا، وقال عنى فى الإذاعة المصرية فى عام ١٩٨٦ عبارة لا يمكن أن أنساها، حيث تم نشر الحديث فى الصحف المصرية حينذاك: «قرأت قصص الأديبة الشابة منى رجب، فأعجبتنى قصصها، وينتظرها مستقبل كبير»، ومع أننى كنت فى بداية مشوارى الأدبى فى هذا الوقت، إلا أن الأستاذ كان متواضعًا معى للغاية، كما أكد لى أنه قرأ قصصى، وأنها أعجبته كثيرًا، وجاءنى إلى مكتبى ليؤكد هذا أمام زملائى، كما قال ذلك أيضًا للأديب الراحل ثروت أباظة، صاحب الرواية الرائعة التى تحوّلت إلى السينما، وهى «شىء من الخوف».
كما كنت أكتب القصة القصيرة بشغف وأراها وسيلتى المحببة للتعبير عن الواقع المعاش فى بلدنا، خاصة أننى ابنة مدينة القاهرة، وقصصى معظمها كان يدور حول العلاقات الإنسانية فى المجتمع المصرى، والعلاقة بين المرأة والرجل، كما عايشتها وأحسستها، وكنت أكتب قصصى بصدق، وأستقيها وأستلهمها من واقع الحياة من حولى.
راودتنى بعض الذكريات العزيزة مع الأستاذ نجيب محفوظ، بمناسبة عيد ميلاده الذى سعدت باحتفال صحيفة «الدستور» به على صفحاتها منذ أيام بمناسبة مرور ١٠٩ سنوات على يوم مولده بحى الجمالية، وسط القاهرة بتسليط الضوء على بعض شخصيات ممن عرفوه، وسعدت جدًا لأن احتفال «الدستور» التى أعتز بأننى من كتّابها أحيت ذكراه لتتعرف عليها الأجيال الجديدة الشابة التى لم يتسن لها أن تعرفه، وقد لا تدرك أهميته فى الأدب العربى وللأدب العربى، فهو صاحب «جائزة نوبل»، وهو أيضًا، فى تقديرى، أهم روائى عربى عرفه التاريخ، فلم يسبق لكاتب أو أديب عربى أن حصل على هذه الجائزة التى تعد أرفع الجوائز الدولية فى الأدب.
لم يكن الأستاذ نجيب محفوظ متعاليًا أو متكبرًا مع أى إنسان، شابًا أكان أم كبيرًا فى السن، وبحكم كونى، إضافة إلى أننى كاتبة صحفية، فكنت أيضًا كاتبة للقصة، وكانت ميولى الأدبية تدفعنى للقراءة والتعرف على كبار الكتّاب، فإننى، وبالفعل كان لى شرف الاقتراب والمناقشة والحوار مع الكثير منهم، ولأن الأستاذ نجيب كان كاتب الرواية المفضل لى، هو ومن بعده إحسان عبدالقدوس، ود. يوسف إدريس، فإننى أتذكر الآن موقفًا آخر كان يؤكد تواضعه وبساطته، فقد فكرت فى أن أحتفل بيوم مولده بنشر صور له بداخل منزله فى الصفحة الأخيرة، التى كنت أرأسها بـ«الأهرام» منذ سنة ٢٠٠٠ وتم ذلك بالفعل، حيث وافق ورحب بدعم الصفحة، كما رحبت بذلك زوجته الراحلة الفاضلة التى كانت نموذجًا فى طيبة القلب والهدوء، والتواضع أيضًا.
وكان لى أيضًا شرف معرفتها عن قرب، وهكذا ظللنا فى يوم مولده ننشر صورًا له بداخل منزله مع بيان آرائه حول الأدب والحياة بشكل عام عن مصر وعن زواره فى هذا اليوم من الأدباء، كنت أحرص على تهنئته بيوم مولده هو وزوجته العزيزة، وكانا يسعدان بذلك وبنشر الصور والموضوع بالصفحة الأخيرة، وكان يشكرنى على اهتمامى رغم أننى كنت الحريصة على شكره لإفساح الوقت لنشر هذا اليوم الخاص له ولأسرته.
أما الذكرى الثالثة التى تقفز إلى ذهنى مع موعد مولده فى شهر ديسمبر، فإننى أتذكر أننى شعرت بالفخر الكبير بأننا فى مصر لدينا أديب حصل على «جائزة نوبل» ومن يكون فى خارج مصر لحظة إعلان «جائزة نوبل» سيدرك مدى أهمية هذه الجائزة، فلقد كنت فى لحظة إعلان فوز نجيب محفوظ بـ«جائزة نوبل» فى الأدب فى ألمانيا بداخل معرض فرانكفورت الدولى للكتاب، وهو أكبر وأهم حدث ثقافى فى العالم.. وأُعلن الخبر للعالم وسرعان ما بثته كل وكالات الأنباء.
ووجدت الصحفيين والإعلاميين يسألوننى إن كنت أعرف نجيب محفوظ فلما قلت إننى أعرفه أخذوا يسألون عنه وعن شخصيته وإبداعه، وأحسست بالفخر لأننى حينما وصلت إلى الفندق كانت كل أجهزة التليفزيون تبث النبأ ووجدت كل من فى الفندق يقولون لى: أنتِ من مصر بلد نجيب محفوظ!، وعندما عدت إلى القاهرة رويت للأستاذ ما حدث من دعاية كبيرة لمصر بلد الأدب والإبداع والحضارة، وما أحدثه فوزه من ردود أفعال دولية واسعة، فاستقبلنى أيضًا بكل تواضع وبساطة، وكان سعيدًا سعادة تشبه سعادة الأطفال، إلا أنه «بعد نوبل» لم يتغير.
ورغم تهافت وكالات الأنباء والصحافة والقنوات العالمية لتسجيل أحاديث معه، فإنه ظل على نفس السلوك الذى يبدى التقدير للآخرين، وأتذكر أنه انتقل بعد الجائزة إلى المكتب الكبير الذى كان يشغله الأديب الكبير الراحل توفيق الحكيم، ومن شدة تواضعه كان يجلس للإدلاء بالأحاديث على الأريكة السوداء الجلدية بالمكتب، ولم يجلس على نفس مكتب توفيق الحكيم إلا بهد شهور من انتقاله إليه.
وكان رئيس التحرير قد صعد لتهنئته بالجائزة الدولية، واختار أن يجعله ينتقل إلى مكتب الأستاذ توفيق الحكيم الأكبر حجمًا ليتسنى له لقاء الصحفيين العالميين والعرب والمصريين، الذين تهافتوا عليه لأخذ كلمات أو حوارات معه، كما عيّن له سكرتيرًا صحفيًا لمساعدته فى المواعيد واللقاءات.
وهكذا انقلبت الحال فى برج كبار الكتّاب، فأصبح كخلية النحل التى لا تهدأ وذلك فى بعد حصول الأستاذ على «نوبل».. إلا أن الأستاذ مع كل العالمية والشهرة التى حظى بها، والمال الذى حصده من خلال قيمة الجائزة، فلم يتغير لا فى دماثة الخلق ولا فى التواضع ولا فى آرائه التنويرية المناهضة للظلاميين.
ولم يتغير فى بساطته وحسن معاملة الجميع البسطاء والشباب والكبار، وظل هكذا شامخًا يمثل لمصر أيقونة الإبداع وقامة كبيرة نفخر بها وأفخر وأعتز بأننى عرفت الأستاذ الخالد الذى أحببنا ولا نزال نحب قراءة رواياته وأفلامه المأخوذة عنها ونسمع ونقرأ آراءه، فنتأكد أن الخلود لا يأتى إلا للذين يستحقونه والذين تركوا ميراثًا من الإبداع الفذ المستقى من واقعهم وعبقريتهم الفريدة.