رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أجرأ مقال لنبيل فاروق.. «لماذا لا يكتب رجال المخابرات مذكراتهم؟»

نبيل فاروق
نبيل فاروق

كتب نبيل فاروق مقاله "لماذا لا يكتب مديرو المخابرات مذكراتهم ونشره في جريدة الدستور عام 2007..

يقول نبيل فاروق:" تاريخ المذكرات الخاصة برجال المخابرات قصير للغاية مقارنة بتاريخ أجهزة الاستخبارات نفسها، فعلى الرغم من قدم جاهز المخابرات السوفيتي إلا أنه ظل طويلًا محبوسًا خلف أسوار عالية، لا يسمح باختراقها قط، لذلك كان من الطبيعي أن نجهل الكثير عن الاستخبارات السوفيتية، والأكثر ألا نرى مذكرات أحد رؤسائها أو رجالها السابقين، ربما حتى هذه اللحظة.

في الغرب تختلف الصورة فهناك رتل من كتب ومذكرات رجال المخابرات السابقين ورؤساء المخابرات القدامى، والمتاحة لكل من يرغب في الحصول عليها، على الرغم مما يحويه بعضها من أسرار بالغة الخطورة، ومن أشهر كتب المذكرات التي نشرها رجال مخابرات سابقون هو كتاب تم تداوله في إنجلترا وحمل اسم "كيم فيلبي" نائب رئيس المكتب الخامس البريطاني، والذي ثبت فيما بعد أنه جاسوس سوفيتي، ظل يعمل لحساب المخابرات السوفيتية لخمسة عشر عامًا قبل أن يدرك أن أمره يوشك على الانكشاف فبادر بالفرار إلى الاتحاد السوفيتي والذي استقبله استقبال الأبطال، ومنحه وسامًا لخيانته ولم يلبث أن ألقى به في غياهب النسيان وتم تجاهل أمره تمامًا، فلم يجد أمامه سوى التعاقد على نشر مذكراته والتي وجدت صدى كبير في إنجلترا.

حوت مذكرات فيلبي الكثير من التفاصيل عن المخابرات البريطانية لكنها لم تحو إلا القليل عن المخابرات السوفيتية والتي عمل لحسابها، ربما لأنه عند نشر المذكرات كان لا يزال مقيمًا في موسكو وتحت قبضة نظم أمنها وأجهزة استخباراتها.

ومع الصدى الواسع الذي لاقته مذكرات فيلبي كان من الطبيعي أن يبادر بعض رؤساء أجهزة المخابرات السابقين إلى كتابة مذكراتهم ولكنهم جميعًا التزموا بقاعدة أساسية ألا وهي نشر ما أتيح لهم من قبل الوثائق الرسمية والامتناع تمامًا عن نشر ما يضر بالأسرار التي لم يفصح عنها بعد، ويمكن أن تمثل خطرًا على الأمن القومي.

وراجت فكرة كتابة المذكرات مثل إدجار هوفر أشهر رجل أمن أمريكي وتهافتت دور النشر المختلفة لشراء الحقوق، وأصبح سوق الكتب يمتلئ بهذا النوع من الكتابات.

أما المكتبة العربية فهناك قصورًا كبيرًا في هذا الأمر، ربما لأنه ليس لدينا قانون يتيح نشر المعلومات للعامة، مهما بلغ قدمها، أو حتى لو انتهى العصر الذي تنتمي المذكرات إليه، ولا يوجد قانون مماثل في أي دولة عربية، مهما تظاهرت بالديموقراطية والشفافية، ثم إن رجال المخابرات السابقين لم يحاولوا نشر مذكراتهم باعتبار أنهم يخضعون لسرية المعلومات والذي يلزمهم بالحافظ على المعلومات حتى بعد انتهاء خدمتهم.

يستثنى من هذه القاعدة أسماء قليلة للغاية احتل أصحابها إما مقاعد القمة أو مقاعد شديدة القرب منهم، فمن أشهر مذكرات المخابرات في مصر هي مذكرات صلاح نصر رئيس الجهاز السابق، والذي يقال إنه انشأ المخابرات بشكلها الحديث، ومذكرات أمين هويدي رئيس المخابرات الوحيد الذي احتل منصب وزير الحربية ورئيس المخابرات في ذلك الوقت، وعبد الفتاح أبو الفضل صاحب كتاب "كنت نائبًا لرئيس المخابرات".

والمذكرات الثلاثة تحوي سيرة ذاتية وقليلًا من المعلومات التي لم يتم نشرها رسميًا، أو ربما تفاصيل أدق لعمليات تم نشر خطوطها العريضة بالفعل، ولكننا نستطيع الجزم أن المذكرات الثلاث لم تحو اي مفاجآت، تجعل الكتب من الأكثر مبيعًا.

ربما حوى كتاب أبو الفضل قليلًا من التفاصيل واحتوى كتاب أمين هويدي على تفاصيل أكثر، ولكن مذكرات صلاح نصر كانت مدروسة بحيث أنها لم تحتو على تفاصيل غير قابلة للنشر، وكأنما حافظ نصر على طبيعة رجل المخابرات بداخله حتى اللحظة الأخيرة.

أما على النطاق الإعلامي فنجد القليل جدا من رجال المخابرات السابقين يتحدثون بطلاقة ويروون مذكراتهم وأشهرهم محمد نسيم الذي حاز شهرة واسعة في الأوساط الشعبية، وعلى الرغم من ذلك فإنك من الممكن أن تجري حوارًا مع رجل مخابرات أمريكي سابق خلال تواجده في الخدمة، ولكن من المستحيل أن تحصل على حوار صحفي مع رجل مخابرات عربي بحجة حماية المعلومات.

هناك رجل مخابرات امريكي نشر في أمريكا اللاتينية كتابًا اسماه "الشركة" عن المخابرات المركزية الامريكية، وضمنه أسماء أكثر من 200 عميل يعمل لحساب المخابرات المركزية الامريكية في العالم كله، وكانت كارثة، وخلال عام واحد تم اغتيال كل هؤلاء الذين ذكرت أسماؤهم في الكتاب، وفقد المخابرات الأمريكية جيشًا من العملاء.

وبالرغم من تجريم المخابرات الامريكية للكتاب إلا أن ألدريتش إيمز نشر مذكراته ايضًا وهو رجل مخابرات أمريكي، وكانت قنبلة حقيقية، حين كشف فيها من هو الذي كان يحتل منصب مسؤول متابعة النشاط السوفيتي في المخابرات، وباع أسرار الأمريكيين للسوفيت، وتسبب في كشف أخطر جاسوس أمريكي في قلب الجهاز السوفيتي، وهو الجنرال "ديمتري بلياكوف"، والذي تم القبض عليه وإعدامه دون أن يدرك الأمريكيون حتى ما أصابه، والأدهى أن إيمز كشف أنه باع للسوفيت أخطر سر أمني في الولايات المتحدة الأمريكية كلها، وهو ما يعرف باسم "خطة استمرار الحكومة"، وكانت تعد أدق الأسرار الأمنية في أي دولة في العالم، وهي الخطة التي تكشف كيف ستتصرف الحكومة حال تعرضها لخطر وأهم الأماكن السرية التي سيختفي فيها نائب الرئيس والقيادات، وأدى هذا الكشف إلى كشف أكثر خطورة تحت أحد المنتجعات في ولاية فلوريدا عندما أزاحت المخابرات الأمريكية الغطاء عن مركز قيادة كامل أسفل المنتجع وفتحه للجولات السياحية للجمهور بعد أن كشف إيمز أمره.

وكما أن المعلومات العلنية شديدة الخطورة والاهمية عند الحصول عليها، فهي كذلك أيضا عند طرحها وهناك مثال صارخ على هذا من خلال خطة النزاع الاستراتيجية التي قمنا بها تمهيدًا لحرب أكتوبر فقد أجدنا في مصر استغلال شغف العدو بالمعلومات العلنية إلى الحد الد الذي جعله يعمل على تجنيد بعض عمال النظافة في المطارات ليحضروا مندوبين للصحف اليومية، والتي يتركها المسافرون خلفهم لضمان الحصول على المعلومات وتوافقت مع معلومات أخرى حصل عليها العدو عبر جواسيس تم كشفهم والسيطرة عليهم بالفعل، وتأجل إلقاء القبض عليهم، حتى يستنفذ الغرض من وجودهم، مثل فتح باب العمرة للضباط في أول رمضان وزيارة الاميرة مارجريت لمصر وزيارة قائد القوات الجوية الليبية، وقرأ العدو الاخبار ولم يكن يدرك أن هذا طعم وخسر أول مواجهة عسكرية في حياته.

والسؤال هو إن كان الرئيس السادات قد نشر مذكراته "البحث عن الذات" ونسب فيها لنفسه كل نقاط القوة فهو الذي أقام تنظيم الضباط الاحرار وهو البطل، وهو القائد وهو المؤمن، وكل رجال الثورة تقريبا كتبوا مذكراتهم وكانوا فيها شرفاء وأبطال وعظماء ولو أن الكل كذلك فمن اين جاءت النكسة، وفي الأخير فإن طبيعة الشعوب العربية وبالذات القادة الكبار لا تؤمن بكتابة المذكرات في تلقائية وتفتقر للشفافية حتى وهي تنقل تجربتها للأجيال فعلى عكس المذكرات الغربية نجد مذكرات قادتنا أشبه بكتب التراث كلها عظيمة وبطولات وأساطير ولهذا يميل الكل الى الثقة ف يكل ما ينشر من مذكرات غربية وإلى الشك في كل ما ينشر من مذكرات مصرية أو عربية، ولأن رجال المخابرات لدينا لا يمكنهم رسم صورة بطولية لأنفهم دون سند في الحقيقة فهم يكتفون بدورهم الرئيسي في حماية الأمن القومي وحماية أسرار الوطن ويكتمون ذكرياتهم ومذكراتهم وخبراتهم أيضا.