رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإشكاليات الخمس الراهنة للأزمة الليبية



المصالحة التى حققها الرئيس عبدالفتاح السيسى بين عقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبى، وخليفة حفتر، قائد الجيش الوطنى، فى ٢٣ سبتمبر، تعكس حرص مصر على توحيد صفوف جبهة البرلمان قبل مؤتمر جنيف، وتجنب حساسيات العلاقة الناتجة عن اختلاف الرؤى بشأن مسارات التسوية السياسية، وهى التى ظهرت إثر إعلان صالح عن مبادرته فى أعقاب تراجع الجيش عن قطاع طرابلس، وإعلان حفتر عن قبول التفويض الشعبى، خشية الوقوع فى شرك تسوية غير عادلة، تحت تأثير تراجع تكتيكى فرضته المشاركة التركية المباشرة فى المعارك، والاستعانة بعشرات الألوف من المرتزقة والميليشيات.. وفد البرلمان سيتوجه إلى جنيف متماسكًا وموحدًا، فى وقت يعاد فيه ترتيب الأوضاع لبدء مرحلة جديدة.. غير أن العلاقة بين صالح وحفتر ينبغى أن تظل موضع متابعة مستمرة، لاحتواء أى تطورات طارئة، على نحو ما حدث عقب مصالحة يونيو الماضى.
متابعة وتقييم الوضع الراهن للأزمة الليبية يفرض تناول خمسة متغيرات رئيسية:
اتفاق النفط
إعلان السراج عن نيته الانسحاب فتح الباب لصراع المنافسين، نائبه أحمد معيتيق استثمر علاقاته كرجل أعمال مع الشرق الليبى وروسيا، وتوصل إلى اتفاق «سوتشى» لاستئناف إنتاج وتصدير النفط، الذى حظى برفض سياسى مبدئى من كل أطراف الأزمة، لأنه بدا كمحاولة لاختطاف المشهد، من جانب معيتيق فى الغرب، وحفتر فى الشرق.. غير أنه جاء فى موعده المناسب اقتصاديًا، بعد ٨ أشهر من الإغلاق وخسائر نحو ١٠ مليارات دولار، وضغوط دولية ومحلية تطالب بالفتح.. وهو يؤمن للشرق عائدات تسمح بتمويل احتياجاته من السلع والخدمات، مع حرمان الميليشيات من التمويل، ومنع تركيا من نهبها، كما يوفر للغرب مصادر الطاقة التى تسمح بإعادة تشغيل المرافق والخدمات والتزود بإيرادات متجددة.
السراج استفاد من تجربته الفاشلة مع باشاغا، عندما اضطر إلى التراجع عن قرار إيقافه تحت الضغط العسكرى والسياسى للميليشيات، لذلك اكتفى بتجميد الجوانب السياسية لاتفاق النفط، ومنع معيتيق من معاودة الاتصال بالشرق الليبى، لكنه لم يمس موقعه السياسى، وإن كان هناك توافق مع البرلمان على إدراج عملية تشكيل اللجنة المشتركة المعنية بالإشراف على توزيع الإيرادات ومعالجة الدين العام للطرفين، ضمن مباحثات جنيف.
التحركات السياسية للوفاق
حكومة الوفاق شرعت فى إبداء قدر من المرونة، فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعتها الدولية، باعتبارها جلبت الاحتلال التركى. وزير الخارجية محمد سيالة، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، عقدا اجتماعًا مع المختصين لبحث ترسيم الحدود البحرية مع اليونان ومالطا، وفقًا للقوانين المعترف بها دوليًا.. وقررا مطالبة شركات النفط العاملة فى المنطقة، وهى تركية بالأساس، بتعليق أنشطتها الاستكشافية باعتبارها موضع نزاع.. تواصل الوفاق مع حكومتى أثينا وفاليتا للتفاوض، ومحاولة التوصل لاتفاقات ترسيم للحدود البحرية، يعد نهاية تراجيدية للاتفاقات مع تركيا.
الوفاق تطمع فى الحصول على دعم دولى لمواقفها إبان مسار التسوية المقبلة.. السراج استقبل فى ٢٠ سبتمبر السفير الألمانى، لبحث مساهمة الشركات الألمانية فى مشاريع البناء والتعمير، فى محاولة لربط مصالح برلين باستمرارها.. فتحى باشاغا وزير الداخلية ومحمد الحداد رئيس الأركان التقيا السفير الإيطالى والملحق العسكرى، لبحث التعاون الأمنى والعسكرى فى إزالة الألغام، ووضع برامج تدريب واستقبال الطلبة الليبيين بالكليات العسكرية الإيطالية.. وكذا الملحق العسكرى التركى لبحث سُبل الدعم فى مجالات التدريب والاستشارات العسكرية والأمنية.. صنع الله رئيس مؤسسة النفط التقى السفير الإيطالى لبحث التعاون فى مجال النفط والغاز، والأوضاع الأمنية بالحقول والمنشآت النفطية، المتعلقة باستئناف عمليات الإنتاج.
وعلى المستوى الداخلى سمحت الوفاق للنواب المنشقين عن البرلمان، بالعمل من داخل ديوان البرلمان فى طرابلس.. محمد آدم لينو النائب الثانى لرئيس المجلس استقبل لجنة المصالحة على مستوى ليبيا فى محاولة لإبراز دور الوفاق فى دعم جهود التسوية. تحركات الوفاق خارجيًا وداخليًا تستهدف التأكيد على أنها لا تزال الحكومة المعترف بها دوليًا، والتى تحدد مستقبل مصالح الأطراف الدولية مع ليبيا.. ويفرض ذلك تحرك دبلوماسى نشط من قبل البرلمان، خاصة فيما يتعلق بترسيم الحدود مع اليونان، أو الإعلان عن تجميد أى اتصالات بشأنه لحين توحيد مؤسسات الدولة، وذلك لقطع الطريق على اتصالات الوفاق، كما أن المناخ مواتٍ لتحرك البرلمان لاستعادة أعضائه المنشقين، مستغلًا التفكك الذى حدث فى قيادة الوفاق والمناخ المواتى للمصالحة، بعد استقبال القاهرة مجموعة منهم.

قرارات مجلس الأمن القومي التركي

انسحاب السراج أصاب تركيا بالانزعاج، لأنها لم تتمكن حتى الآن من ترتيب أوضاعها هناك.. أردوغان استدعى السراج إلى إسطنبول ٢١ سبتمبر، ونصحه بالتراجع، خاصة أنه لم يستقل، بل تلاعب بالألفاظ، معربًا عن رغبته فى ترك المنصب، محاولًا استباق احتمالات استبعاده عند تشكيل مجلس رئاسى جديد خلال مباحثات جنيف المقبلة.
تركيا باتت فى أزمة عميقة بعد أن أضحت الاتفاقات التى تعول عليها مع السراج فى مهب الريح، اتفاق ترسيم الحدود بين مصر واليونان وفقًا لقواعد القانون الدولى وجه ضربة قاتلة لها، وغياب السراج فى أكتوبر يطيح بها، وافتقادها للمشروعية القانونية يهدم السيناريو التركى من أساسه، مما يبرر دعوة أردوغان لاجتماع مجلس الأمن القومى التركى ٢٤ سبتمبر، لبحث التطورات الجارية فى ليبيا، بعد أن أدرك العديد من قادة الغرب الليبى أن السفينة قد أوشكت على الغرق، ويسعى كل منهم إلى القفز منها، أو اللحاق بمسار التسوية السياسية.
أردوغان أمر بتوجه كبار المسئولين إلى طرابلس لإعادة ترتيب الأوضاع، كل فى مجاله، محذرًا من أن توجه الليبيين نحو التسوية، وانسحاب السراج يعنى انهيار المصالح التركية، مما يفرض ربط أى نظام قادم بالتزامات تعاقدية وبرامج سداد ديون تضمن تبعيته الدائمة لتركيا.. كما أكد استمرار التواصل مع روسيا بشأن التسوية السياسية، واستكمال الاجتماعات بين المسئولين فى الخارجية والدفاع، «أنقرة ٢١ و٢٢ يوليو، موسكو ٣١ أغسطس و١ سبتمبر، ثم ١٥ و١٦ سبتمبر».. ويفرض ذلك صدور إعلان من البرلمان بأن المرحلة الانتقالية الراهنة التى تمر بها عملية التسوية تعنى عدم مشروعية عقد أى اتفاقات يمكن أن تترتب عليها أى التزامات، وذلك لحين تشكيل مؤسسات السلطة الموحدة.

مسارات التسوية السياسية

جبهة البرلمان الليبى تخوض عدة مسارات للتسوية السياسة، «أمنية واقتصادية وسياسية» تقود لتوحيد مؤسسات الدولة، ونقل المقرات الحكومية الرئيسية مؤقتًا إلى مدينة سرت بعد تنفيذ الترتيبات المناسبة، ثم تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.. وينبغى هنا ملاحظة أن كل التفاهمات التى تمت بين ممثلى شرق ليبيا وغربها تم التنصل منها فى البداية، حدث ذلك فى اتفاق النفط بسوتشى، ثم شرع الطرفان فى تنفيذه بعد استبعاد موقّعيه لأسباب تتعلق بالتنافسات السياسية الداخلية.. كما تكرر فى تفاهمات بوزنيقة المغربية، عندما بادر العديد من الأطراف فى البداية برفض نتائجها.
هذا التردد يؤكد أن النزعة للتفاهم والبحث عن جوانب التوافق ليست نزعة أصيلة، وإنما تتم تحت ضغط العوامل التى تحكم مسار الأزمة، مما يرجح أن تغير الظروف، خاصة من خلال تدخلات وضغوط تركية، قد يؤدى إلى التراجع عن مسار التسوية، وهو ما يفرض الاستعداد والتلويح بإمكانية استخدام أدوات ووسائل أخرى مناسبة «إجراء مناورات عسكرية...».
قيادات الغرب البديلة
التنافس على السلطة بين قيادات الغرب الليبى اشتعل بين ثلاث شخصيات منذ إعلان انسحاب السراج، الأول: أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسى.. يتبنى الدعوة للتسوية السياسية ومواجهة المتطرفين منذ فبراير ٢٠٢٠، لديه قناعة بأهمية الدور الروسى لتحقيق الاستقرار، وتربطه علاقات جيدة بـ«ميخائيل بوجدانوف» المبعوث الخاص للرئيس بوتين وبالشرق الليبى.. الثانى: فتحى باشاغا، وزير الداخلية، طموحه يسبق قدراته واندفاعه يسبق حساباته السياسية.. تم إيقافه عن العمل بعد اتهامه بتدبير انقلاب مع المشرى برعاية تركية للإطاحة بالسراج، لكنه عاد بضغط الميليشيات التابعة له فى مصراتة وطرابلس.. الثالث: خالد المشرى، رئيس المجلس الأعلى للدولة، ممثل جماعة الإخوان، شارك فى مختلف مخططات الفساد، وعارض مبدأ التوزيع العادل لعائدات النفط بين المناطق الليبية، لأن التنظيم يسعى للهيمنة عليها، وهو من أكبر عملاء المخابرات القطرية والتركية وأحد مشرعنى الغزو التركى، تربطة علاقات وطيدة بالميليشيات، خاصة ميليشيا الزاوية التابعة لتنظيم «القاعدة»، برئاسة شعبان هدية «أبوعبيدة الزاوى». معيتيق تدعمه قبائل مصراتة، لكنه ليس أميرًا للميليشيات مثل باشاغا، ولا ملوث بالإرهاب مثل المشرى، لذلك فهو الأنسب لممارسة دور فعال للتنسيق مع الشرق الليبى بشأن التسوية السلمية، ما يفرض دعمه لمواجهة ما تتيحه الفوضى الراهنة فى طرابلس من فرص أفضل فى تبوؤ السلطة لمن يمتلكون القوة الفاعلة على الأرض، كباشاغا والمشرى وقادة الميليشيات الكبرى.

تداعيات حالة اللاسلم واللاحرب، وقطع التمويل عن الميليشيات ستؤدى إلى انفلات أمنى غير مسبوق فى طرابلس، بوادره ظهرت باندلاع الاشتباكات بين كتيبتى «الضمان» و«أسود تاجوراء»، استخدمت فيه الدبابات والأسلحة الثقيلة بالمناطق السكنية، وزير دفاع الوفاق أمر بحل الكتيبتين وإحالة قادتهما للتحقيق، وكلف الإرهابى صلاح بادى المدرج على القوائم، باستخدام القوة لفض الاشتباك، مستعينًا بـ«لواء الصمود» الذراع المسلحة للإخوان، مدعومًا بميليشيات القوة المشتركة وغالبيتها من المرتزقة.. مواجهة الفوضى بالميليشيات تعنى مزيدًا من الفوضى، وتسليم السكان رهائن لها.. تركيا تسعى لدفع أتباعها لتصدر المشهد بديلًا عن السراج، ومحاولة تعطيل أى اتفاقات تسوية.. تشكيل مجلس رئاسى وحكومة فى سرت، ستكون مهمتهما استعادة دور مؤسسات الدولة الموحدة، وفرض الاستقرار والأمن، ما قد يفرض مستقبلًا التعامل بقوة مع الميليشيات لتفكيكها وإعادة فرض الأمن.. تلك مهمة بالغة الصعوبة، تحتاج لمسئولين متطوعين لا طامعين.. فهل يأتى التشكيل الجديد بهم، وسط مناورات إخوان ليبيا؟!.