رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: «هو وهى».. و«الحسد».. والإمام محمد عبده

محمود خليل
محمود خليل

حدثتك- من قبل- عن «تهميش العقل» كسمة من سمات التدين المصرى، إلى جوار سمة الشكلانية والاحتفالية. وقليل من مفكرى القرن التاسع عشر من حاول التصدى لهذه الآفة التى تمددت منذ قرون على خريطة التدين المصرى. لم يكن من السهل على أحد الإقدام على مثل هذه المواجهة، فالأمر كان معقدًا، وكانت درجة التعقيد تزيد حين يقترب أى من أفراد النخبة الساعين للإصلاح إلى تقديم تأويلات عقلانية فى مواجهة التأويلات القديمة التى تأخذ بظاهر الآيات وتسقط السياقات عند التفسير. كان الإقدام على مثل هذه الخطوة كفيلًا بمحاصرة صاحبها بالاتهامات والغمز واللمز، ناهيك عن الرفض الشعبى، الذى يجعل من أى جهود إصلاحية هباءً منثورًا. فى مواجهة «تهميش العقل» عند فهم وتأويل الآيات القرآنية تجلى جانب من أهم جوانب التجربة الإصلاحية لمحمد عبده.
فخلافًا لمعاصريه من علماء الدين، وخلافًا لمن سبقه منهم أيضًا اعتمد الشيخ الإمام على منهجية عقلانية خالصة فى تفسير النص القرآنى. لم يخضع فيها للموروث الفقهى أو التفسيرى لنصوص القرآن الكريم، بل أعمل عقله فى نصوص التراث، ولم يهدر السياق الذى يعيش فيه ومعطيات العصر الذى يحيا فى ظلاله، وهو يفسر النص القرآنى أو يستخلص منه أحكامًا قد تتفق أو تختلف مع ما خلص إليه فقهاء الموروث الدينى. جعل الإمام العقل أداة لفحص وتحليل الأفكار والمفاهيم التى اشتمل عليها التراث الدينى، فقبل من بينها ما يوافق العقل ومعطيات الواقع والذوق الإنسانى السليم، ونبذ ما يتناقض مع العقل والفهم الصحيح لآيات القرآن الكريم، ذلك النص الذى لا تتناقض شرائعه وأحكامه بحال مع العقل.
وأكثر ما ميّز المنهج التأويلى الذى اعتمد عليه الشيخ الإمام أنه خلافًا لغيره لم يهمل السياق، فقد جعل من «سياق الماضى» مقدمة أساسية لقراءة واستيعاب التخريجات التأويلية التى خلص إليها فقهاء الموروث، واستند إلى «سياق الحاضر» فى استخلاص الأحكام والتشريعات من النصوص القرآنية، ولم يأبه إلى مسألة الاتفاق أو الاختلاف مع الاستخلاصات التى خرج بها فقهاء الموروث من ذات النصوص. تشهد على ذلك الاستخلاصات اللافتة والمبتكرة التى خلص إليها الشيخ الإمام فى تأويل الآيات القرآنية المنظمة لمسألة الزواج فى الإسلام التى أعادت الاعتبار إلى المرأة ودافعت عن حقوقها فى مواجهة رؤية موروثة قامت على إهدارها ومحاصرتها وإسقاط حقوقها.
اختلف الشيخ الإمام- بداية- مع المفهوم الذى قدمه فقهاء الموروث للزواج فى الإسلام. ويذهبون فيه إلى أن «الزواج عقد يملك به الرجل بضع المرأة»، يعلق الإمام على هذا التعريف بقوله: «لم أجد فى تعريفات الفقهاء للزواج كلمة واحدة تشير إلى أن ما بين الزوج والزوجة شىء آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدية، وكلها خالية عن الإشارة إلى الواجبات الأدبية التى هى أعظم ما يطلبه شخصان كل منهما من الآخر. وقد رأيت فى القرآن الكريم كلامًا ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفًا له، ولا أعرف أن شريعة من شرائع الأمم التى وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه، قال الله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)». الرأى السابق للشيخ الإمام يضعنا أمام عقلية نقدية لا تميل إلى حفظ الموروث الفقهى بل تسعى إلى تحليله وتمحيصه وقياس أفكاره على القرآن الكريم ومتطلبات العصر وتحولاته.
وخلافًا للموروث الفقهى أيضًا تبنى الشيخ محمد عبده رأيًا فيما يتعلق بمسألة تعدد الزوجات، وأكد أن الشريعة المحمدية أباحت للرجل الزواج بأربع من النسوة بشرط العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة وأن آية: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء» مقيدة بآية «فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة». وقد فند الإمام محمد عبده مزاعم المدافعين عن حق الرجل فى تعدد الزوجات فى أكثر من موضع من كتاباته الاجتماعية، وخلص إلى أن إقرار التعدد فى صدر الإسلام كان مرده الحالة الاجتماعية والظرفية التى عاشها المجتمع المكى، وأن الأوضاع المعاصرة تفرض قراءة مختلفة لمسألة تعدد الزوجات تتسق مع التطور الاجتماعى.
يقول الإمام: «وغاية ما يُستفاد من آية التحليل- يقصد آية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)- إنما هو: حل تعدد الزوجات إذا أمن الجور، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح، فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات، كما هو مشاهد فى أزماننا، أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد فى العائلات وتعدٍ للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حد أن يكون عامًا، جاز للحاكم، رعاية للمصلحة العامة، أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بغير شرط، حسب ما يراه موافقًا لمصلحة الأمة».
لم يتوقف الإمام عند تقديم فهوم وتأويلات واقعية وعقلانية لبعض المسائل المتعلقة بالأسرة والعلاقات الأسرية، بل تجاوزها إلى الدائرة الأرحب، المتمثلة فى المجتمع، وأخذ يفتش عن الفهوم الاجتماعية الخاطئة لبعض المسائل الدينية، خصوصًا تلك التى تتأسس على فهم غير عقلانى للآيات القرآنية، وبدأ يواجهها، ويعيد صياغة التصورات الموروثة حولها. من هذه المسائل، على سبيل المثال، مسألة «الحسد». للشيخ الإمام تحديد غاية فى الذكاء والعقلانية لمفهوم الحسد فى القرآن، فهو لا يراه مرتبطًا بعين سحرية أو مشعّة قادرة على فلق البشر والحجر كما كان ولم يزل بعض المسلمين يتصورون، بل يتعلق بسعى شخص واجتهاده فى إيذاء غيره بأعمال دنيوية حتى يفقد نعمًا معينة يحسده عليها.
ذلك هو معنى الحسد فى القرآن: سعى للنيل من الآخر ليس أكثر. وتشبث بعض المصريين بالمعنى الركيك الذى يسكن أدمغتهم حول الحسد يعكس رغبة أساسية فى البحث عن شماعة يعلق عليها المقصر تقصيره والمخطئ أخطاءه والكسول كسله. والمخجل أكثر فى هذا الأمر هو محاولة البعض الاحتجاج بأن القرآن الكريم ذكر الحسد، رغم أن الله تعالى يقول «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير». نعم الحسد مذكور فى القرآن، لكن ليس بالمعنى الفلكلورى السائد بين المصريين، بل المعنى المبتكر الذى استخلصه الشيخ محمد عبده.
إيمان الشيخ محمد عبده بحتمية مواجهة مسألة «تهميش العقل» على خريطة التفكير الدينى للمصريين كان كبيرًا. وقد قدم اجتهادات عدة دلل بها على ضرورة التماس العقلانية فى فهم وتأويل النص الدينى، ومنهجه العقلانى فى تفسير القرآن الكريم نقطة تحول فى تاريخ التدين، لكن المشكلة أن الاهتمام بفكر الرجل كان ضعيفًا، ولم تظهر من بعده نخبة فكرية تواصل تجذير هذا الخط على خريطة العقل الدينى المصرى.