رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تفجير ميناء بيروت.. التداعيات والعواقب



فى أواخر عام ٢٠١٩ كان الظهور الأول لفيروس «كوفيد- ١٩» المستجد، ومع دخول عام ٢٠٢٠ بدأ تفشى الفيروس فى كل دول العالم، وبدأت الدول فى اتخاذ عدد من الإجراءات الصحية والاحترازية، التى أوجبت إغلاق المؤسسات والمصانع والمدارس وأماكن التجمعات وفرض العزلة والتباعد الاجتماعى، ما أدى إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية تأثر بها كل دول العالم، خاصة الدول منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل.
تشير الإحصاءات الاقتصادية العالمية إلى أن الخسارة الاقتصادية خلال عامى٢٠٢٠ و٢٠٢١ على مستوى العالم ١٢٫٥ تريليون دولار أمريكى، والبلدان النامية ستتأثر كثيرًا ويزداد الوضع سوءًا فى الدول متوسطة ومنخفضة الدخل، وبالنسبة للمنطقة العربية المنتجة للنفط فى الربع الأول من عام ٢٠٢٠ خسرت ٨٪ من دخلها، وازدادت الخسارة بعد ذلك مع استمرار تفشى الفيروس وتوقف وسائل النقل والطيران بين الدول.
وكان للبنان نصيب كبير من التأثر بالأزمة الاقتصادية، حيث كان يعانى فى الفترة الأخيرة من انهيار سعر العملة المحلية وارتفاع وغلاء فى الأسعار وفساد أدى إلى الاستيلاء على الثروات وسوء وتدهور الخدمات، خاصة فى مجالى الصحة والتعليم، وازداد ذلك بالطبع بعد جائحة فيروس كورونا، وتأثرت السياحة وقلت تحويلات المهاجرين اللبنانيين من النقد بنسبة ٥٠٪ وأصبح أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، بجانب وصول البطالة إلى ٣٥٪ وخسرت الليرة اللبنانية ٧٠٪ من قيمتها خلال ثمانية أشهر، ولنقل إن الدول التى تعتمد على الاقتصاد الريعى، مثل لبنان وعدد كبير من الدول العربية، تأثرت كثيرًا، وبدأ البعض منها يضع خططًا لدعم الاقتصاد الإنتاجى فى مجالى الزراعة والصناعة للوصول إلى الاكتفاء الذاتى، حيث كشفت جائحة كورونا عن أهمية الأمن الغذائى والأمن الصحى.
نتيجة لاحتدام الأزمة الاقتصادية داخل لبنان، مع سياسات اقتصادية تعتمد على مزيد من التقشف وفرض الضرائب على المواطنين، مع الاتجاه لخصخصة شركة الاتصالات الوطنية والكهرباء وبعض المصارف مع زيادة الدين الخارجى- ثار الشعب اللبنانى وانتفض فى ١٧ أكتوبر ٢٠١٩ وما زالت انتفاضته الكبرى مستمرة فى الشارع اللبنانى وازدادت اشتعالًا مع الإهمال والفساد الذى أدى إلى تفجير ميناء بيروت، وأصر الثائرون على استقالة الحكومة وحل البرلمان ووضع ميثاق جديد وعهد جديد يلغى الطائفية والمحاصصة التى تحكم لبنان منذ استقلاله فى أربعينيات القرن الماضى، والمطالبة بانتخابات جديدة ترسى دولة المواطنة بجانب محاكمة سريعة لكل الفاسدين الذين نهبوا ثروات لبنان، مع محاكمة «للقتلة» الذين تسببوا بإهمالهم واستهتارهم بترك شحنة من المتفجرات تصل إلى ٢٧٥٠ طنًا من مادة نترات الأمونيوم فى مخازن فى الميناء، بجانب المواد المخزنة داخل الميناء من أغذية ومواد كيماوية وأدوية، هذا بالإضافة إلى قرب الميناء من مناطق آهلة بالسكان.
إن الإهمال والبيروقراطية البطيئة والاستهتار أسلحة فتاكة مثلها مثل أى عمل تخريبى إرهابى، كما أن الإهمال من الحكومات المتعاقبة «منذ وصول الشحنة ووضعها فى الميناء منذ ٦ سنوات» يكون سببًا أساسيًا فيما جاء من تسريبات عديدة من استغلال وجود هذه المتفجرات من العدو الصهيونى لتفجير كبير يؤدى إلى انقسام واستقطاب فى الشارع اللبنانى بين القوى اليمينية والموالية للخارج ولأمريكا وإسرائيل «وتطالب بالاستنجاد بالخارج ونزع سلاح المقاومة ضد العدو الصهيونى الذى ما زال يحتل مزارع شبعا فى جنوب لبنان» وبين القوى الوطنية التقدمية، التى دافعت وتدافع عن سيادة الدولة اللبنانية واستقلال سياسات لبنان ورفض التبعية للخارج وتطالب باستمرار سلاح المقاومة «حزب الله» حتى تتحرر أراضى الجنوب المحتلة من الصهاينة الذين يهددون أمن لبنان.
إن أخطر ما يهدد الدولة اللبنانية هو الاستقطاب الحاد فى الشارع اللبنانى، والذى تريده الدول الخارجية «أمريكا وأوروبا» والأنظمة التابعة لها، هذا الاستقطاب الذى يمكن أن يؤدى لحرب أهلية، تكون نتيجتها تدخل الـ«ناتو» كما حدث فى ليبيا.
أكد الرئيس الفرنسى ماكرون فى زيارته للتضامن ودعم الشعب اللبنانى المطالبة بإصلاحات ووضع شروط لمنح لبنان مساعدات أو قروض لإعادة الإعمار، وهى لجنة تحقيق دولية، وتغيير السلطة التى لا يثق فيها الشعب وانتخابات جديدة. وجاء مؤتمر المانحين الذى عُقِد عن طريق «الفيديو كونفرانس» الأحد ٩ أغسطس، ليؤكد أن المنح والمساعدات على المدى البعيد تحتاج لمزيد من إصلاح اقتصادى، والنأى بلبنان عن مشاكل المنطقة.
إن انفجار ميناء بيروت يشكل علامة فارقة فى لبنان، فالتحدى ليس تشكيل حكومة جديدة، بل إعادة هيكلة النظام السياسى على أسس جديدة، وهى من وجهة نظرى ووجهة نظر الكثيرين هى القضاء على المحاصصة والطائفية وبناء دولة المواطنة والقانون، وذلك مع التأكيد على تحقيق شفاف وعادل ونزيه وتحويل كل المسئولين عن الانفجار كل الفاسدين إلى المحاكمة.
إننا نرفض تدويل التحقيق، وما طالب به البعض فى لحظة غضب من إعادة الانتداب الفرنسى على لبنان، فنحن لا ننسى مآسى الاستعمار الفرنسى ودمويته فى البلدان التى احتلها، ومنها تونس والجزائر «بلد المليون شهيد» ومستعمراته فى قارة إفريقيا، والتى وصل عدد مَن تم قتلهم من المواطنين على يد الاستعمار الفرنسى إلى ١٠ ملايين.
إننا نتمنى لشعب لبنان السلامة والأمن والأمان ونثق بأن الشعب اللبنانى المحب للحياة سيواجه هذه المحنة وينتفض كما عوَّدنا، مثل طائر العنقاء الذى يحترق وينتفض ويخرج من الرماد حيًا محلقًا بجناحيه.