رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهال كمال تتذكر «5»: العبقرى بليغ حمدى

بليغ حمدى
بليغ حمدى


يصف الخال عبقرية بليغ حمدى الموسيقية قائلًا:
«إذا أردت أن تتطلّع إلى نبع موسيقى مصرى حقيقى متفجر دائم التفجر كما الينابيع والنوافير فانظر إلى ألحان بليغ حمدى».
الفنان الوحيد بين الملحنين المصريين ذو الانبثاقة المتصلة أو ما تسمى «الشعلة المقدسة» فى الفن، فهو كان يتفرد بأن الخاطر الموسيقى يتولد لديه كاملًا، بمعنى أنك تستطيع أن تقول إنه كاتب الأغنية وملحنها وراسم مكياجها وأزيائها ومعطيها اسمها وحامل أصولها، وبلغ حالة من النضج لا يقابله فى المنطقة العربية كلها إلا الظاهرة الرحبانية.
بدأت علاقة عبدالرحمن ببليغ حمدى قبل زواجنا بفترة طويلة، ولذلك كنت حريصة على أن أسأله عن سر هذا الارتباط الفنى والعاطفى الشديد الذى دام سنوات طويلة واستمر حتى آخر رحلة سافر فيها للعلاج فى باريس.
حكى لى عبدالرحمن أنه صار صديقًا لبليغ حمدى منذ أول لقاء بينهما فى عام ١٩٦٤.
حين قابله عند الأستاذ محمد حسن الشجاعى فى الإذاعة، فاحتضنه كأنه يعرفه منذ زمن طويل، فخرجا معًا وسارا معًا وحدّثه بليغ بحماس شديد عن أغنية «تحت السّجر يا وهيبة» التى أحدثت دويًا فى تلك الفترة، وفى أيام قليلة أبدعا «عدوية» و«بيتنا الصغير» و«وسّع للنور» و«آه يا ليل يا قمر» و«شباكين عَ النيل» و«آه يا أسمرانى اللون» و«أنا كل ما أجول التوبة» التى كانت سببًا فى الخلاف، فقد رأى عبدالرحمن أن تكون بصورتها الصعيدية الفلكلورية كما فى الصعيد، فى حين رأى بليغ أن يغلّفها بالرقة ويضع «الفلاتر المدنية» ويخلق جملة جديدة ليجعل الأغنية على شفاه أبناء المدن.
كذلك انحاز إلى جانب عبدالحليم فى معركة «أجول» و«أقول»، وتفاقم الخلاف بينهما إلى حد جعل بليغ يمسك عوده قائلًا: «عودى ده يخلق ألف أبنودى»!
ثم اعتذر فيما بعد عن هذا القول، وأدرك أنه أضاع وقتًا ثمينًا كان يمكن أن يثمر أغنيات كثيرة.
كنت أتعجب، كيف حدث الخلاف بين الخال وبليغ وهما الاثنان صعايدة. ويفسّر عبدالرحمن ذلك قائلًا:
«بليغ صعيدى من سوهاج وقد لا يكون عاش فى الصعيد وامتزج مثلى بترابه وربما لا يعرف منه أو عنه سوى اسمه، ولكنه كان دائم الحديث عن صباه وشبابه فى شبرا.
ولكن العجيب فى الأمر أنه كان يحمل فى داخله تراثًا موسيقيًا صعيديًا يمثل طبقة من طبقات عديدة تؤلف تكوينه الفذّ.. ولم أكن فى حاجة لأن أبذل جهدًا كبيرًا لإيقاظ الصعيد الموسيقى داخله.
أما سبب صدامى معه (فى بعض الأحيان) فإننى كنت صعيديًا قُحًا، وكان رقيقًا لدرجة مربكة، ولكنّ موسيقاه الصعيدية ألغت المسافات وخلقت الألفة، وأحسست أن الخلاف فى التكوينين ضئيل».
ويرى عبدالرحمن أن أغنية «الهوى هوايا» هى نغمات صعيدية خالصة اختفت تحت ستار عصرى من موسيقى «موزّعة» وأداء شيك. ولا ينسى صورة طلاب المدارس «المسطّحين» فوق عربة قطار يغادر قنا متجهًا جنوبًا، وهم يغنّون بصوت واحد هذه الأغنية كأنهم ورثوها عن أهاليهم، شأنها شأن أغنياتهم الفلكلورية. ويؤكد عبدالرحمن أن وجوده إلى جوار بليغ فترة شجعه على البوح والكشف عن ملامح الصعيدى ابن سوهاج الذى كان مختبئًا داخله.
ومن الغريب أن أغنية «الهوى هوايا» بدأت من جملة موسيقية لحّنها بليغ وأُعجب عبدالرحمن باللحن وقال لبليغ: «دى جملة دهب، لازم تبدأ بحاجة زى (الودّ ودّى)، (الهوا هوايا)».
فقفز بليغ قائلًا: «بس هى دى (الهوى هوايا)»!
الهوى هوايا أبنيلك قصر عالى
واخطف نجم الليالى
واشغلّك عقد غالى يضوى بأحلى الصبايا
أنا الهوى هوايا
أما التجربة الكبيرة التى خاضاها معًا فهى «شىء من الخوف»، وهو الفيلم الذى كتب حواره وأغانيه التى شدّت الفنانة الكبيرة شادية.
وطلب عبدالرحمن من بليغ أن يضع فى اعتباره أن تكون الموسيقى أقرب إلى السيمفونيات العالمية والغناء الملحمى، وبالفعل استطاع أن يضيف بعدًا آخر لنجاح الفيلم بالأغانى، وحين كان يُعرض الفيلم على إحدى الفضائيات كان يشاهده الخال من أول مشهد إلى آخر مشهد، وكان يردد مع الممثلين أدوارهم فقد كان حافظًا حواره عن ظهر قلب، وكان يقول:
«ماكانش ممكن أى حد حيعرف يكتب الحوار دا زيّى لأنى عشت الأجواء دى وأبويا كان مأذون شرعى».
من أهم الأغانى التى يعتز بها عبدالرحمن فى رحلته مع بليغ حمدى أغنية «موال النهار»، لأنها أول أغنية اعترفت بالهزيمة بعد نكسة ١٩٦٧، وحين كان يذهب إلى الدول العربية لإقامة أمسيات شعرية كان يُعرف بأنه «شاعر موال النهار»، كذلك أغنية «المسيح» التى غنّاها عبدالحليم فى لندن مرة واحدة لجمع التبرعات للمجهود الحربى، ومُنعت إذاعتها فى مصر لفترة طويلة، وقال الخال:
«حين اندلعت الانتفاضة كسرت الأغنية الأدراج وخرجت لتعبّر عن الجرح الفلسطينى»!
رنّت تراتيل الكنايس فى الخَلا
وصبح الوجود إنجيل على أرضها
«أغنية (المسيح)، لحن بليغ حمدى»
حين عاد بليغ إلى مصر بعد غياب «بعد انتهاء الأزمة القانونية التى أبعدته سنوات طويلة» كان يأتى إلى منزلنا مصطحبًا عوده لعمل ألحان جديدة لمطربين جدد أو لمحمد رشدى «وما زال عود بليغ حمدى موجودًا فى منزلنا حتى الآن»، وكانت آية الأبنودى فى تلك الفترة لم تتعدَّ أربع سنوات، وحين تسمع نغمات العود تأتى للجلوس إلى جانب الأستاذ بليغ، فيغنّى لها أغانى الأطفال، كما أهداها بيانو صغيرًا ما زالت تحتفظ به.
قد تكون الفترة التى شاهدتُ فيها الأستاذ بليغ فترة قصيرة، ولكنه كان دائمًا حاضرًا فى كلام عبدالرحمن وذكرياته.
وآخر مكالمة سمعنا فيها صوته كانت من المستشفى فى باريس، طلب منّا الدعاء له وأحسّ باقتراب النهاية، وقال: «ادّونى حقنة صعبة قوى وربنا يستر، ادعوا لى».
وبعدها بيوم وافته المنية ليعود جثمانه إلى أرض الوطن ويُدفن فى مصر.
ودّع عبدالرحمن بليغ قائلًا:
«تحية لك يا بليغ وأنت معى بالأمس، وتحية لك وأنت غائب لا تغيب».
وأقول لهما: تحية لكما وأنتما لا تغيبان.