رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأزمة الليبية وتصاعد دبلوماسية البوارج الحربية


طبول الحرب تُقرع عن قرب.. مصر أعلنت محور «سرت- الجفرة» حدًا لنطاق أمنها القومى، لأن تجاوزه يعنى سيطرة تركيا والتنظيمات الإرهابية على مصادر النفط والغاز بالهلال النفطى، بما يعنيه ذلك من تمويل أنشطتها، وتهديد دول الإقليم، استخدام قاعدة الجفرة الجوية يسمح بالسيطرة على الجنوب الليبى، والوصول إلى قاعدة القرضابية جنوب سرت يهدد المنطقة الشرقية وحدود مصر الغربية بطول ١٢٠٠ كم.. تركيا تتحدى بتجاوز «الخط الأحمر»، مصر تقف بالمرصاد، وأوروبا تعارض تدخلها فى ليبيا.. الأطراف المعنية بالأزمة تستعد للمواجهة، بمناورات عسكرية متقاربة زمنيًا ومتلاصقة جغرافيًا، غطت شرق المتوسط، وحولته إلى ميدان مواجهة.. دبلوماسية البوارج الحربية آخر مراحل الاستعداد للحرب.

مناورات تركيا 11 يونيو
البحرية التركية أجرت مناورات ضخمة فى ١١ يونيو بمشاركة عناصر النخبة من القوات الجوية والبحرية، شاركت فيها ١٧ طائرة تابعة للقوات الجوية من طراز F-16 وطائرات الإنذار المبكر والتزود بالوقود جوًا، إضافة إلى طائرات نقل عسكرية من طراز C-130، و٨ قطع بحرية، منها ٦ فرقاطات وسفينتا دعم وغوّاصتان تابعة لقيادة القوات البحرية.. هذه القوة تم تكليفها لتكون بمثابة «قوة تدخل سريع» دائمة خاصة بليبيا.. المناورة استغرقت نحو ٨ ساعات، غطت مسارًا بطول ألفى كيلو متر، بهدف اختبار قدرة تركيا على الوصول بقوة جوية ضاربة إلى ليبيا فى أسرع وقت إذا اقتضت الضرورة.. وقد تبين فيما بعد أن المناورة كانت عملية عسكرية استهدفت تأمين نقل بطاريات الدفاع الجوى وشبكة الرادارات التى تم تدميرها بمجرد تركيبها فى قاعدة «الوطية» الجوية.. تركيا حرصت على توجيه رسالة مؤداها «نحن قادرون على إنشاء جسر جوى بحرى بيننا وبين ليبيا.. المستعمرة الجديدة».

مصر «تفتيش حرب»
مصر ردت على العملية التركية بـ«تفتيش حرب» للفرقة المدرعة المتمركزة بالمنطقة الغربية العسكرية القريبة من الحدود الليبية ٢٠ يونيو، حضره الرئيس السيسى يرافقه وزير الدفاع ورئيس الأركان، وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة.. الرئيس التقى قيادة القاعدة الجوية بالمنطقة، وتفقد وحداتها المقاتلة، وكشف عن أن محور «سرت-الجفرة» يمثل خطًا أحمر، وأن مصر لن تسمح لأى قوة معادية بتجاوزه، موجهًا رسالة واضحة؛ أن الجيش المصرى أقوى جيوش المنطقة، قادر على تأمين حدوده، وتنفيذ أى مهام يكلف بها لحماية الأمن القومى المصرى.


مناورات «نافتيكس» التركية
البحرية التركية كشفت مؤخرًا عن استعدادها لإجراء مناورات أطلقت عليها اسم «نافتيكس»، تشارك فيها بصورة أساسية «قوة التدخل السريع» الجوية والبحرية الخاصة بليبيا.. من حيث الظاهر تستهدف المناورة التدريب على «الاستعداد القتالى»، وتتم فى ثلاثة مواقع قبالة السواحل الليبية، يحمل كل منها اسم أحد قادة البحرية العثمانية: «جاكا باى» قائد فى بحرية السلاجقة، أنشأ إمارة مستقلة مركزها «إزمير» الحالية عام ١٠٧١، ويعتبر أول من أسس سلاح بحرية فى تاريخ تركيا.. «خير الدين بربروس»، قرصان انكشارى، أصبح أول قائد للأسطول العثمانى بداية القرن الخامس عشر، حقق للإمبراطورية العثمانية انتصارات فى إسبانيا وجنوة جنوب إيطاليا وبيلوبونيز اليونانية وفرنسا ومالطا والبرتغال، وانتصر على الأسطول الصليبى الذى حشده البابا.. «تورغوت ريس» قرصان تركى، ظهر مطلع القرن ١٦ برفقة قراصنة آخرين، بسطوا سيطرتهم على شرق المتوسط، ونشروا الرعب للسفن الإيطالية القادمة من أرخبيل البندقية، قام فى أغسطس ١٥٥١ باحتلال طرابلس، وأصبح واليًا عليها، بعد هزيمة فرسان مالطا، وعندما توفى تم دفنه فى ليبيا.. تركيا تراهن على أرواح قادة تاريخها الزاخر بأعمال القرصنة والنهب لعلها تبارك مغامرتها الجديدة، التى تستهدف عودة العثمانية الجديدة إلى ميراث الأجداد.
الإعلان عن المناورات تم بعد أيام قليلة من زيارة الأدميرال عدنان أوزبال قائد القوات البحرية التركية إلى طرابلس، ثم خلوصى آكار وزير الدفاع مصحوبًا برئيس الأركان، لتوقيع اتفاق عسكرى مع السراج، يضمن مصالح تركيا، ويتيح لها التدخل المباشر، فضلًا عن إنشاء قوة عسكرية تركية، وتأسيس قواعد حربية، وتوفر حصانة لقواتها ضد أى ملاحقة قضائية، وتمنح الضباط الأتراك صفة دبلوماسية لضمان حمايتهم.. إعلان تركيا عن المناورة أيضًا تم عقب تدمير منظومة الدفاع الجوى والإنذار والحرب الإلكترونية التركية بقاعدة «الوطية» العسكرية جنوب طرابلس، مما يعنى أنها تستهدف توجيه رسالة معنوية للرأى العام الداخلى فيها، للحد من أثر الخسائر الفادحة التى لحقت بقواتها، والتى أكدت كذب الإعلام التركى، الذى أكد أن الجيش التركى قادر على احتلال كامل التراب الليبى خلال أيام قليلة.
المناورة التركية لم يتم تحديد موعدها حتى فجر الأربعاء، لأنها فى تقديرنا تعتبر عملية خداع استراتيجى، يتم خلالها التحول من مناورة إلى عمليات حربية فعلية، تجنبًا للصعوبات المتعلقة بالهجوم البرى على سرت، والتى سبق أن واجهتها تركيا فى هجومها السابق، الذى اضطرت معه قواتها إلى الانسحاب لمسافة ٩٠ كم عن مركز المدينة، بعد أن كانت قد تقدمت بعمق ٣٠ كم، وتكبدت خسائر فادحة فى الأفراد والمعدات.. العملية التركية المتوقعة سيتم خلالها تشييد ثلاثة رءوس جسور على الساحل من خلال عمليات إبرار بحرى، مدعومًا بهجوم جوى، وآخر برى للمرتزقة على عدة محاور غرب سرت، ما يسمح بسرعة إنجاز المهمة، واحتلال المدينة، بمعركة خاطفة.. لقاء رئيس الأركان التركى مع نظيره الروسى يؤكد حرص أنقرة على الاطمئنان إلى حدود الموقف العسكرى الروسى، واتصال أردوغان مع بوتين وترامب يستهدف طمأنتهم، وضمان حدود ردود أفعالهم تجاه محاولة الدخول إلى سرت.


مناورة «حسم 2020» المصرية
بعد يوم واحد من إعلان البحرية التركية عن نيتها إجراء مناورات «نافتيكس» البحرية، نفذت تشكيلات المنطقة العسكرية الغربية فى مصر المناورة الاستراتيجية «حسم ٢٠٢٠»، بالتعاون مع الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة.. اسم المناورة يعكس الجدية فى تأمين «خطوط مصر الحمراء».. فى المراحل الأولى للمناورة تم تنفيذ أعمال الفتح الاستراتيجى للقوات البرية، والقوات الخاصة من المظلات والصاعقة.. تنفيذ الطائرات متعددة المهام مجموعة من الضربات الجوية المركزة.. تقديم المعاونة الجوية بغرض القضاء على عناصر المرتزقة والميليشيات غير النظامية.. تنفيذ رماية استهدفت مناطق تجمع تلك العناصر ومراكز القيادة ومناطق التشوين والدعم اللوجستية.. توجيه ضربات جوية مركزة على الأهداف السطحية المعادية، والأهداف ذات العمق البعيد، خاصة مراكز قيادة العدو، والتى تتطلب التزود بالوقود فى الجو لمختلف الطرازات.
المناورة تضمنت أيضًا شن عملية برمائية ضد الأهداف السطحية غير النمطية.. قيام عدد من طائرات الهليكوبتر بإبرار سريعة صاعقة لتنفيذ إغارة على مركز قيادة مكتشف لعناصر المرتزقة وتدميره.. تنفيذ رمايات الدفاع الجوى والمدفعية البحرية بالأعيرة المختلفة.. الضغط على الغواصات المعادية بمناطق عملها، بواسطة قذائف الأعماق الصاروخية، التى أصابت أهدافها بدقة، ما أجبرها على الهروب وعدم تهديد التشكيل البحرى.. إغارة ناجحة على هدف ساحلى وذلك باستخدام الزوارق السريعة التى دفعتها حاملة المروحيات «ميسترال».. وإسقاط مظلى لتأمين رأس الشاطئ.. تجربة عملية لسيناريو الدفاع الديناميكى عن سرت.


مناورات قبرص اليونان إيطاليا فرنسا
بعد إعلان تركيا استعدادها لإجراء مناورات عسكرية بحرية ضخمة قبالة السواحل الليبية، شاركت فرقاطات فرنسية فى مناورات مع اليونان وقبرص وإيطاليا، وذلك فى المنطقة البحرية قبالة ليماسول، فى إطار التعاون الإقليمى فى مجال الدفاع والأمن الذى توافقت عليه الدول الأربع.. شاركت فى المناورة الفرقاطة البحرية اليونانية «كاناريس» والفرنسية «أكونيت» والإيطالية «ألبينو»، بالإضافة إلى عدد من المروحيات الهليكوبتر.. المناورة تعكس التوافق بين إيطاليا وفرنسا على مواجهة التجاوزات التركية فى حق قبرص واليونان، وهى استكمال لعملية ترسيم الحدود البحرية بين المنطقة الاقتصادية لإيطاليا ونظيرتها اليونانية، بما يقطع الطريق أمام ادعاءات تركيا المتعلقة بترسيم الحدود التركية مع السراج.
اليونان تسعى لقطع الطريق نهائيًا على تركيا فيما يتعلق بأطماعها فى النفط والغاز شرق المتوسط، وهو ما اتضح من خلال لقاء وزير خارجيتها نيكوس دندياس مع عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبى الشرعى مطلع يوليو الجارى، والاتفاق على تعيين خبراء لترسيم الحدود البحرية بين ليبيا واليونان، تمهيدًا لتوقيع اتفاق قانونى لترسيم الحدود البحرية بين ليبيا واليونان، ردًا على الاتفاق غير الشرعى بترسيم الحدود الذى عقده أردوغان مع فائز السراج فى نوفمبر ٢٠١٩.. الاتفاق اليونانى الليبى يستهدف إسقاط أى شرعية للاتفاق التركى مع السراج، ويحرم تركيا من مبررات تدخلها للتنقيب عن مصادر الطاقة فى المنطقة.. التدخلات التركية لو حدثت فى أعقاب توقيع الاتفاق اليونانى الليبى تعنى الانزلاق نحو الحرب، فقد استنفدت كل الجهود السياسية، وسقطت كل الذرائع، وهو ما يفسر ارتفاع صوت السلاح خلال المناورات العسكرية.


المناورات القبرصية الأمريكية
الولايات المتحدة أعلنت فى ٨ يوليو عن أنها تعتزم إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع قبرص.. هذا الإجراء هو الأول من نوعه، ويعتبر تطورًا نوعيًا فى السياسة الأمريكية تجاه قبرص، مهدت له خلال العام الماضى بقرار الكونجرس إنهاء الحظر على بيع الأسلحة للجزيرة، الذى استمر عدة عقود، منذ احتلال تركيا ثلثها الشمالى.. وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو أكد أن وزارته ستقوم للمرة الأولى بتمويل تدريبات عسكرية لقبرص كجزء من «علاقاتنا الأمنية الآخذة فى التوسع، ودعمًا لجهودنا الخاصة بتعزيز العلاقات مع الشركاء الإقليميين الرئيسيين تعزيزًا لاستقرار شرق المتوسط».. تركيا حليفة الولايات المتحدة فى حلف «ناتو» سارعت بالتنديد بالقرار الأمريكى!.. واشنطن تحاول التخلى عن سلبيتها، بدعم الموقف القبرصى فى مواجهة الأطماع التركية، وذلك دفاعًا عن مصالح شركاتها العملاقة «إكسون موبيل، نوبل إنيرجى»، واستثماراتها فى مجال النفط والغاز شرق المتوسط، التى تتعرض للتهديدات التركية.
دبلوماسية البوارج البحرية تتصاعد بحدة.. أى مناورة عسكرية أضحت تواجهها مناورات أخرى خلال أيام قليلة، إن لم تكن ساعات.. وتلك ضغوط متبادلة ومتصاعدة، تعكس خطورة تفاقم الأزمة الليبية، واقتراب لحظة الصدام العسكرى.. مسرح العمليات الرئيسى محور سرت- الجفرة، لكن حسم نتيجة المعركة سيتم خلال المعارك الجوية والبحرية.. طبول الحرب تقرع بقوة، وقد نكتوى بلهيبها قبل قراءة سطور هذا المقال.