رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غاز شرق المتوسط.. مزيد من تحديات السياسة المعطلة


يُعد «سايمون هندرسون» أحد أهم خبراء الطاقة الأمريكيين والباحث المخضرم فى هذا المجال منذ عقود، لذلك فهو يشغل الآن منصب مدير «برنامج برنستاين لشئون الخليج وسياسات الطاقة»، فى المركز البحثى الشهير «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى». مؤخرًا كتب هندرسون ما سماه المركز «تنبيه سياسى» بعنوان «غاز شرق البحر الأبيض المتوسط يواجه تحديات تجارية وفنية وسياسية»، وهى ورقة بحثية وتنبيه فعلًا على قدر من الأهمية للمصالح المصرية، خاصة وهى تتناول مفردات المشهد الحالى بعد دخول العديد من المتغيرات على هذا الملف الشائك.
تبدأ الورقة باستعراض النشاط الإسرائيلى فى تشغيل حقل «ليفياثان» الذى باشرت المنصات العاملة عليه عملياتها، اعتبارًا من نهاية ٢٠١٩، وأنه قد نجح بعد تجاوز بعض المشكلات الفنية فى ضخ الغاز فى الشبكة المشتركة مع كل من مصر والأردن، منذ يناير من هذا العام.
ويشير الباحث إلى أن هذا التعاون قد جرى تدشينه من أجل تصدير الأحجام المستقبلية للغاز إلى الأسواق الخارجية الأخرى، عبر ناقلات الغاز الطبيعى المسال، لكن تظل هذه الخطط معلقة، لأن بيع الغاز بهذا الشكل غير قابل للتطبيق فى ظل الأسعار الدولية الحالية.
كما يُرجع السبب الذى دفع إسرائيل إلى التوقف المؤقت فى الخطط المقررة سلفًا بزيادة إنتاج الغاز من حقل «ليفياثان» لانخفاض الأسعار بهذا الشكل الآن فى سوق متقلب، رغم أن التعاقد الذى أبرمته تل أبيب مع أهم شركة أمريكية لإدارة الحقل العملاق وهى «نوبل إنرجى» كان يستهدف هذا التوسع، فضلًا عن استخراج النفط من المكامن الموجودة تحت الطبقات الجوفية الحاملة للغاز.
أول تحذير سياسى جاء بالورقة بعد ذلك يذهب فى اتجاه الأردن باعتباره العميل الرئيسى لهذه الشبكة المشتركة، حيث يستخدم الغاز الذى يضخ فيه من إسرائيل لتشغيل شبكته الرئيسية لتوليد الكهرباء، كما يجرى ضخه أيضًا إلى المنشآت الصناعية الأردنية فى منطقة البحر الميت.
هذا الترتيب برمته يتعرض اليوم لخطر التطورات السياسية القادمة، المتمثلة فيما أعلنته إسرائيل عن خطوات ضم الأراضى المحتملة فى الضفة الغربية، والتى قد تبدأ فى يوليو من هذا العام، الأمر الذى أثار تحذيرات شديدة من قِبل الملك عبدالله، باعتباره قد يفجر كل أشكال التعاون ما بين المملكة وإسرائيل، ومنها ملف الطاقة على أهميته.
ويشار فى سياق الإشكاليات السياسية المعلقة داخل حوض شرق المتوسط إلى أن المنطقة المتنازع عليها ما بين لبنان وإسرائيل لم تبدأ عمليات التنقيب فيها، رغم تلهف فرنسا إلى هذا باعتبارها تتزعم هذا النشاط قبالة سواحل بيروت، لكن تلك الأعمال لم تنتج ما هو محفز بتلك المنطقة، وتظل التقديرات تشير إلى سواحل الجنوب اللبنانى بأنها هى الأكثر جاذبية لكن عدم ترسيم الحدود والإشكاليات الأمنية ما بين لبنان وإسرائيل، تحُول حتى الآن دون تمدد فرنسا إلى تلك المنطقة فى الوقت الراهن.
الأبرز والأكثر أهمية لمصر، يأتى عندما يشير إلى أن تركيا ما زالت تبذل جهدًا كبيرًا فى العثور على الغاز، فى المناطق البحرية التى تطالب بها رغم تعريفها «الواسع» لمدى امتداد تلك المناطق، هذا حسب توصيف هندرسون الذى نقل أن هناك محادثة هاتفية قد جرت مؤخرًا بين الرئيس ترامب والرئيس أردوغان، وفيها بدا أن كلا الرئيسين وافقا على مواصلة السعى لتحقيق الاستقرار فى منطقة شرق المتوسط، لكن يبدو مما ذكره عن هذا الأمر أن لديه المعلومات من الجانب التركى فقط، باعتباره أتبع ذلك بأن أنقرة تؤكد أن التركيز الرئيسى فى هذا الصدد كان يخص ليبيا، متناولة الاتفاقية التى نجحت تركيا فى إبرامها مع حكومة الوفاق، ووافقت من خلالها طرابلس على تحديد الحدود البحرية المتبادلة بينهما والمنطقة الاقتصادية الخالصة لكل بلد.
وعلى ضوء ذلك، يرى هندرسون أن «النزاع الليبى» أضاف بُعدًا آخر لثلاث منافسات شرق أوسطية متعددة الأوجه، وقد ذكرها على هذا النحو: «مصر ضد تركيا»، «اليونانقبرص فى مواجهة تركيا»، و«إسرائيل ضد لبنان»، ويشير إلى أن العديد من تلك النزاعات المعنية بصورة مباشرة بمنطقة وثروات شرق المتوسط مستعصية على الحل، ولكن هذا لا يعنى بالضرورة استحالة حلها.
تحاول الورقة فى جزئها الأخير وضع بعض التصورات من قِبل الباحث المخضرم موجهة بالأساس للإدارة والدبلوماسية الأمريكية، يستحثها وفق تعبيره لصناعة قصة نجاح سياسى، معتبرًا تطوير موارد الطاقة فى شرق البحر المتوسط فيه الكثير من المصلحة المتبادلة لبعض دول المنطقة، ويطالب تلك الدبلوماسية بالمزيد من الانخراط من أجل التغلب على الصعوبات الحالية، ويضع بعضًا من الأمثلة استقاها الباحث مما جرى مؤخرًا على مسرح العمليات الذى يتناوله، حيث يذكر أنه فى الوقت الذى تتمتع فيه إسرائيل بصداقتها مع اليونان وقبرص، فإنها لا تزال تحافظ على علاقات تجارية كبيرة مع تركيا.
وفى هذا الصدد، يرى أنه على الرغم من أجواء التوتر السياسى العام بين البلدين، فإن إحدى الإشارات على الرغبة المتبادلة لأنقرة وتل أبيب فى الحفاظ على علاقات العمل بينهما جرت الأسبوع الماضى، عندما غادرت طائرة شحن تابعة لشركة «العال» الإسرائيلية متجهة إلى إسطنبول تحمل معدات خاصة بفيروس كورونا لتسليمها إلى الولايات المتحدة، رغم أن الشركة الإسرائيلية قد أوقفت رحلاتها إلى تركيا منذ سنوات، بسبب خلافات حول الترتيبات الأمنية فى الوقت الذى لم تقابلها الشركات التركية بإجراءات مماثلة، بل ظلت حريصة على استمرار رحلات الشركات التركية من وإلى إسرائيل.
الورقة التى سميت بـ«التنبيه السياسى» ترى وتشير إلى أهم تلك التحديات، ومصر لها ارتباط كبير بهذه المنطقة، التى تضم الحلفاء والمنافسين والأعداء أيضًا، فضلًا عن دقة إدارة العلاقات والارتباطات مع الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما من الحاضرين على ذات المسرح الشائك، لذلك تظل تلك القراءة الأمريكية القريبة من دوائر القرار فى واشنطن جديرة بالاهتمام وبحث إمكانية الاستفادة من إشارتها الواضحة أو ما هو حاضر أيضًا بين سطورها.