رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد عفيفى: تصور المصريين عن الله واحد منذ زمن الفراعنة

الدكتور محمد عفيفى،
الدكتور محمد عفيفى،

بنزعة متصوفة ولغة ثرية، تذكر الدكتور محمد عفيفى، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب- جامعة القاهرة، تفاصيل رحلته لمعرفة الله، التى بدأها منذ الصغر فى إحدى قرى المنوفية، ولمسها فى مسار حياته، وشعر بها خلال غربته للدراسة فى فرنسا، التى تعرف فيها على المعنى الحقيقى لما سمّاه «الفيض الإلهى».
ولخص «عفيفى»، فى حواره التالى مع «الدستور»، فلسفة المصريين فى معرفة الله، ومنهجهم الواضح فى رؤيته والشعور بإرادته وأفعاله، مشيرًا إلى أن هذه الرؤية لم تختلف منذ عصور المصريين القدماء، رغم اختلاف الأديان والمعتقدات واللغات، ما جعله يتوقف عن تصديق من يتحدثون كثيرًا عن الله، ويصدق فقط من يمشون بنوره.

حلمت بالرسول عدة مرات وأنا صغير على هيئة نور هادى

فى بيت من بيوت محافظة المنوفية كانت نشأة الدكتور محمد عفيفى، داخل واحدة من القرى التقليدية فى مصر، التى استمد منها تصوره عن الله، مثل كثير من المصريين.
وقال «عفيفى»: «لكل المصريين تصور واحد عن الله منذ الولادة، وهو أمر مستمر منذ الفراعنة، فالطفل نفسه هو الرزق الذى أرسله الله للأسرة، وحين يبدأ وعيه فى التفتح يظهر دور الأب والأم فى حياته ليرياه الله، فى الوقت الذى تبدأ حيرته وتساؤلاته فى التكون».
وأضاف: «التصور التقليدى لدى الطفل المصرى عن الله أنه فى السماء، ومن هنا تصبح السماء فكرة سرمدية، لذا نجد الأطفال دائمًا فى انفعالاتهم ينظرون إلى السماء، وكأننا جميعًا نتصور أن الملائكة يجلسون على السحاب والله فوق الملائكة، وبعدها نكبر لنكتشف أن الله فى كل مكان».
واسترجع تجربته الشخصية فى ذلك، قائلًا: «نشأت فى بيت كبير وأسرة تتكون من الأب والأم والجد والعم والعمة، وكلنا نعيش فى بيت واحد، كانوا لا يتحدثون عن الله كثيرًا لكنهم يطبقون رحمة الله فيما بينهم، ومنحونى رؤية حقيقية عن الله، لذا لم أصدق من يتحدثون كثيرًا باسمه، لكنى أصدق من يمشون بنوره».
وأضاف: «فى حياتى كان لى الكثير من المواقف التى تعلقت فيها بالله، وعندما كنت صغيرًا كنت أفكر كثيرًا فى رسول الله، وحلمت به عدة مرات، وكلنا حلمنا به على هيئة نور هادى، صحيح أنى لا أتذكر تفاصيل الحلم، لكنى حلمت به كثيرًا، وفى مسقط رأسى فى المنوفية كنا نسمع المديح النبوى، وكان لا بد للأفراح أن تحتوى على مديح رسول الله فى ذلك الوقت».
وواصل: «حين يكبر الإنسان يكتشف أن الله حوله ويجده فى كل شىء، كمن يرشده إلى طريقه، ومن هنا تظهر بعض العبارات الدالة على وجوده، مثل كلمة (يا فرج الله)، ويراه فى كثير من المواقف، وفى كل موقف يخذله فيه إنسان أو صديق، أو تضيق فيه الدنيا، يجد كل مصرى كلمة (يا فرج الله) على لسانه، ويجد أن الله فرّجها من حيث لا يحتسب، وهو ما رأيته كثيرًا فى حياتى».
وأشار إلى أنه كثيرًا ما ردد جملة «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج»، خاصة أن كل اللحظات الحلوة فى حياته، جاءت فى وقت الضيق والشدة وحين انسداد الأبواب، حيث فجأة وبلا مبرر يجد الأمور انفرجت بلا أدنى جهد منه، وهو ما حدث كثيرًا، ليرى الله يتصرف بحكمته، سبحانه وتعالى.
ومثل كل شىء يدل على وجود الله، كالكون كله، هناك أيضًا أفعال من أناس جعلت «عفيفى» يرى الله، فى ظل إيمانه بأن لله عبادًا اختصهم بهذا الأمر، ولقضاء حوائج الناس.
وعن ذلك قال: «هناك الكثيرون ممن خلقهم الله ليفرجوا الأمور، ومن خلالهم يمكن أن نرى الله، وكأنهم يعبرون عن إرادته ورحمته، وفى مصر لدينا أسماء (عبدالرحيم وعبدالرحمن) منتشرة، وهو ما يختلف عن كثير من الدول التى تنتشر بها أسماء (عبدالقوى وعبدالجبار)».
وعن هؤلاء الذين قربوه من الله، تذكر «عفيفى»: «بالنسبة لى هناك أبى وأمى وجدى ومعلمى، الله خلقهم لرعايتى، وهم من علمونى كل شىء، مثل الصلاة وحب الناس والقرب من الله».

«الفيض الإلهى» صاحبنى فى حياتى ودراستى

عن تشابه رؤيته لله مع رؤية الصوفية، قال الدكتور محمد عفيفى: «كثير من الاتجاهات شوّه الصوفية، لكن يجب أن نعلم أن الإسلام انتشر فى جنوب الصحراء الإفريقية أو ما يسميه البعض إفريقيا السوداء عن طريق الصوفية، وكذلك انتشر فى جنوب شرق آسيا».
وأضاف: «الصوفية أيضًا وقفت ضد المستعمر، والحركة السنوسية فى ليبيا هى التى وقفت ضد الاستعمار الإيطالى، وكان عمر المختار نفسه سنوسيًا، وجيش الانكشارية إبان الدولة العثمانية كان من الطرق الصوفية، والطرق الصوفية لعبت دورًا مهمًا فى الإسلام، سواء بالدفاع عنه أو نشره بشكل كبير».
وعن الأولياء وزيارة أضرحتهم، قال: «زيارة الأولياء عادة مصرية قديمة منذ أيام الفراعنة والمصريون حريصون عليها، ويرون فى الأولياء وسيلة للتقرب إلى الله، وليس فى هذا تعارض مع الإسلام، خاصة أن الرسول قال إنه ترك للناس كتاب الله وعترته أهل بيته، لذا فمن الطبيعى أن ينظر الناس لمن يرونه قدوة ويعتبرون حبه طريقًا إلى الله، ولا مشكلة فى ذلك، لذا فإن المصريين مولعون بحب آل البيت والسيدة والإمام الحسين، ويحيطونهم بهالة شبه مقدسة، وأذكر أننى كنت أزورهم أيضًا حين كنت طالبًا وقبل سفرى إلى الخارج».
وواصل: «حين ذهبت إلى فرنسا للدراسة وجدت لغة غريبة وأناسًا لا أعرفهم، وكنت أحمل هَمًا كبيرًا حول كيفية التعامل معهم والعيش بينهم، لكن فجأة وجدت أن الله يسّر لى كل شىء كنت أحمل همه، وأنزل علىَّ سكينته، وأصبحت أستطيع أن أناقش وأثبت وجودى، وشعرت وقتها بأن الله معى فى العديد من المواقف، سواء فى الحياة العادية أو فى فترة الغربة، وأصبحت أرى ما تدعوه الصوفية الفيض الإلهى».
وتابع: «رؤية الصوفية فى الفيض الإلهى تقول إن الله إذا أحب عبدًا أفاض عليه من نعمه، وقد تكون النعمة هى العلم من عند الله، لأن أول شىء قيل للرسول هو اقرأ».

مصر أرض الأديان وحامية اللغة العربية

لم يكن ممكنًا أن نختم الحديث مع الدكتور محمد عفيفى عن الله دون التعرض إلى رؤيته ودراساته للتاريخ، خاصة أن تاريخ مصر ارتبط بالدين إلى حد كبير.
عن ذلك قال: «من الأشياء التى لفتت نظرى فى بداية دراستى للتاريخ هى أن مصر أرض الأديان، وهذا لم يكن صدفة، فهى مهد التوحيد منذ إخناتون، والأنبياء إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وأنبياء اليهودية جاءوا إلى مصر، وكذلك عيسى ومريم جاءوا إليها فى رحلة العائلة المقدسة، وحتى الإسلام الذى نشأ خارج مصر جاء إليها، وأصبح لها دور فيه، وعرفنا فيها الإسلام المصرى والأزهر وقراءة القرآن على الطريقة المصرية».
وأضاف: «هذا البلد حامٍ للغة العربية والإسلام، وهذا يقرب المصريين أكثر إلى الله، ويفسر اعتقادهم بأن مصر محروسة دائمًا، حتى فى ظل الوباء الذى نمر به، الذى لولا رحمة الله لكان الوضع معه مأساويًا».
وشدد على أن للأزهر الشريف دورًا رائدًا فى تعرف كثيرين إلى الإسلام، وهو أمر مستمر فى البعثات إلى الدول الإفريقية، كما أن الأزهر هو من حمى الإسلام واللغة العربية تاريخيًا لأنه فى مصر، وكثير من المساجد التى نشأت خارج مصر لم تلعب مثل دوره.
وأضاف: «إنشاء الأزهر كان بهدف نشر المذهب الشيعى، لكن المصريين، ولنا أن نضع هنا ألف خط، حوّلوه إلى مسجد لحماية المذهب السنى، لذا لعب دورًا حيويًا ومهمًا وصمد أمام محاولات الاختراق من جماعات غير وسطية، لأنه يمثل طبيعة الوسطية المصرية، وسيستمر على ذلك».