رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ممالك الكلام».. حكاية مقهى أحمد زكي المفضل وعلاقته بمطعم الجحش

أحمد زكي
أحمد زكي

عرفت مصر المقاهي منذ أمد بعيد، كأماكن للاستراحة من العمل، أو لقاء الأصدقاء، أو حتي لتزجية الوقت في لحظات تأمل وإنعزال عن العالم، وبحسب الكاتب محمد عبد الواحد في كتابه "حرائق الكلام في مقاهي القاهرة" فقد كانت المقاهي في بداية القرن العشرين موقعا مفضلا للعامة والتجار، والمارين بالقاهرة على سبيل "الترانزيت"، ثم مع بداية مواجهة الاحتلال كان صوت جمال الدين الأفغاني لا ينقطع عن التنوير، داخل مقهي "متاتيا" فكان يوزع الثورة بيمينه و"السعوط" بشماله.
كما شهدت القاهرة العديد من المقاهي لأصحاب المهن والحرف المختلفة، على سبيل المثال لا الحصر، قهوة "بعرة" والمخصصة لكومبارس السينما في مصر، كما كانت هناك وما زالت حتى اليوم مقاهي للمثقفين منها "الحرية، ريش، زهرة البستان، مقهى المسيري في دمنهور، وبالطبع مقهى الندوة الثقافية"، والتي كانت في بدء تأسيسها خالية من ألعاب الدومينو والكوتشينة والطاولة، ولا يتغير مؤشر مذياعها عن إذاعة القرآن.

ـــ كيف انتقل مقهى الندوة الثقافية من شارع منصور لميدان الفلكي

يذهب مؤلف كتاب "حرائق الكلام" إلي أن أصحاب مقهى الندوة الثقافية كانوا يملكون في عام 1921 مقهى صغيرا في شارع منصور بالقرب من مكان الغرفة التجارية في القاهرة، بمساحة لا تزيد عن ثلاثة أمتار، تتراص فيه بعض المقاعد الصغيرة المصنوعة من القش، وأمامها بعض الطاولات الخشبية القريبة من الأرض، وفي خارج المقهي كانت توجد كراسي أخري مطعمة بالصدف. وتعمل لمدة 24 ساعة يوميا، واعتاد عمال شركة "أسمنت طرة" في ذلك الوقت الجلوس فيها، إضافة لجنود الإحتلال الإنجليزي الذين يرون المقهي مغاليا في أسعاره، وذلك عندما ارتفع سعر كوب الشاي بحليب إلي قرش تعريفة، وبراد الشاي أصبح ثمنه قرش صاغ واحد.

وفي عام 1962 انتقل صاحب المقهي "محمد حسانين" وأولاده علي ورشاد وجلال إلي مكان جديد في عمارة البدراوي بميدان الفلكي وافتتحوا مقهاهم الجديد "الندوة الثقافية"، ويتذكر الحاج رشاد أن المقهى ظل تجمعا كبيرا لعدد من الكتاب والأدباء والصحفيين، الذين استمر ارتباطهم بالمقهى إلى الآن، وهو ما دفع أصحابه لتسميته بــ"الندوة الثقافية" وكان من أشهر رواده في الستينيات، "نجيب محفوظ، جمال الغيطاني، وحيد فريد، فاروق عبد القادر، يوسف القعيد، توفيق صالح، أحمد زكي، وحيد سيف جورج البهجوري، أحمد السبعاوي، سمير غانم، محمد الدفراوي، فاروق عبد السلام، د.فاروق أبو زيد، يحيي العلمي"، ومعظم العاملين بالصحف والإذاعة والتليفزيون وغيرهم، وفي تلك الفترة كانت هناك حيوية في الثقافة والفكر وذلك كان ينعكس علي جو المقهى من خلال لقاءات وحوارات لا تنتهي كل يوم.

كما يشير الكاتب الراحل مكاوي سعيد في كتابه "مقتنيات وسط البلد" إلي أن الذي كان يميز هذا المقهى أنه لا يقدم سوى دخان "التنباك" وهو نوع من فاخر من معسل "النارجيلة" لا يقدر الكثيرون علي تدخينه، مما خلق نوعية خاصة من الزبائن -(وقد تخلوا في الفترة الأخيرة عن تقديمه، وقدموا المعسل العادي وتخلوا عن تقاليدهم الصارمة كمنع الأكل بالمقهى أو منع تحية السيدات للرجال بالتقبيل أو العكس)- وهو من المقاهي المعدودة التي يقوم أصحابها بالخدمة فيها علي الزبائن ومتابعة تلبية طلباتهم، ثم يتقاضون منهم الحساب، وهو يعطي إحساسا للرواد بأن صاحب المكان هو الذي يخدمهم مما يعطيهم ذلك تقديرا خاصا.

ومن الطرائف التي يذكرها "مكاوي" عن المقهي:"أن أحد عماله في الستينيات كان اسمه "الجحش" وهكذا كان يناديه الجميع فيرد بكلمة لا تتغير وهو يبتسم "عمي" ثم ترك العمل بالمقهي واشتري عربة يد كان يبيع عليها الفول بجوار قسم السيدة زينب وبالقرب من جامع السيدة زينب، واشتهر الجحش وفوله جدا في السبعينيات والثمانينيات.
ووصل صيته إلي النخبة وأولاد الذوات والمثقفين والفنانيين فبدؤوا يزورونه جماعات ويروجون لمذاق فوله المتميز وسلطة الطماطم المسقية بجوزة الطيب، وكانت مواعيد عمله تبدأ دائما من بعد الغروب حتي بعد صلاة الفجر بقليل، وكانت هذه المواعيد تناسب السهارى، ومات الجحش في أوائل التسعينيات بعد أن افتتح محلا كبيرا لبيع الفول بالسيدة زينب وهو الآن من أشهر مطاعم الفول بالقاهرة.