رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اليوم التالي لـ "كورونا" (3)


من المُحَتَّم أن يكون لتضرُّر الدول الكبرى من نتائج اجتياح وباء "كورونا"، مردود فائق الأثر، عظيم الكلفة، نرى آثاره جليّة كل يوم، حين نسمع بتصاعد وتائر الخسائر المادية إلي تريلونات الدولارات، ومواجهة الملايين من العاملين شبح البطالة، والتدهور المُريع فى أسعار الطاقة علي النحو غير المسبوق الذى حدث مؤخرًا، فضلًا عن تفاعلات الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الزاحفة، التى كان الكثيرون من الاقتصاديين يحذرون من تبعاتها، إضافةً إلي التصدُّعات التى شهدتها العلاقات بين أطراف النظام الرأسمالي العالمى، وتشى بتداعيات عاتية، وهو أمر تعكف مختلف الهيئات المسئولة والبحثية، فى أطراف المعمورة الأربعة لتفحُّص آثاره، ووضع خطط مواجهته، سعيًا للخروج بأقل الخسائر من هذه المواجهة المفاجئة، التى عصفت باستقرار وأمان العالم أجمع.


ومن الطبيعى إزاء هذه الجائحة التى ضربت العالم كله، أن تتضرر، وربما بشكل أكبر، الدول النامية، والفقيرة، بالنظر إلي أن بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أضعف من مثيلتها فى دول الغرب المُتقدم، وإمكاناتها أقل، فضلًا عن إنها لا تملك من الفوائض المالية والعوائد الاقتصادية ما يُعوضها عما تسببت فيه عاصفة "كورونا" من محنٍ وخسائر.


ومن المنطقى أن يكون حجم التراجع فى قطاعات حسّاسة، سريعة التأثر، كالسياحة والنقل البحرى، وتحويلات العاملين خارج الحدود، وغيرها، المُرتبطة بعوامل خارجية مُباشرة، أكبر منه فى قطاعات أخرى كالزراعة والتشييد والخدمات والاتصالات، غير أن التحسُّب للمستقبل يوجب إعمال النظر فى التوجُّهات الحاكمة للاقتصادات المحدودة القدرة، خاصةً وأن هجمة "كورونا" تركت، بالفعل، بصماتها على الواقع، وعلي سبيل المثال فقد دفعت الأزمة، كما ذكرت وزيرة التخطيط الدكتورة "هاله السعيد"، إلي "تغيير كل المستهدفات، فى خطة العام المالي 2020، فى إطار مواجهة أزمة فيروس كورونا"، وتراجعت توقعات النمو الاقتصادى، من 5.8% إلي 3.5%، كـ "محُصَّلة للركود الاقتصادى العالمي وتأثيره على الاقتصاد الوطنى" (المصرى اليوم، 2242020).

ويوجب هذا الوضع، على الجميع، وفى المقدمة الدول النامية، جدول أعمال مُتخم، لامتصاص توابع وباء فيروس بأقل الخسائر والأضرار، وفى مقدمة بنود هذا الجدول إعادة النظر فى قائمة أولويات المجتمع، بحيث تُعطى الصدارة للأهم فالمهم، وللتوجهات التى تُلبّى حاجات القطاع الأوسع من المواطنين، وتدر عوائد مباشرة للمجتمع لا لقطاعات محدودة منه، وإلى تلك التى تُحدث تراكمًا يعود بالنفع على الدولة، عوضًا عن التى تصب فى مصلحة فئة محدودة من الجمهور.


وأشارت الأزمة إلي وجوب تبنّى سياسات اقتصادية تُشجع الاعتماد علي الذات، وبناء منظومة اقتصادية مُنتجة، وعلي درجة معقولة، وممكنة من الاستقلال، إذ أصبحت فاتورة الاستيراد باهظة الكلفة، المادية والسياسية، وفوق ذلك فقد أثبتت التجربة أن حركة المجتمعات التابعة اقتصاديًا، تتأثر بشدة من أعطاب المنظومة العالمية، نظرًا لارتباط الاقتصادات النامية، العضوية بها.


كذلك فإن الجائحة، و"رب ضارة نافعة"، قد أعادت الاعتبار إلي قيمة العلم والعلماء، ونبهت إلي وجوب الاهتمام الفائق بالتعليم والثقافة والبحث العلمى والمعرفة المتقدمة والتطور التقنى، وأكّدت صحة ماتبناه دستور 2014، حين أقرَّ فى المواد: (19، 21، 23) بوجوب تخصيص ماقيمته (7%) من الإنفاق الحكومى على: التعليم (4%)، والتعليم الجامعى (1%)، والبحث العلمى (1%) "تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المُعدّلات العالمية"، كما كان هذا الظرف دافعًا إلي البدء فى إعادة النظر فى أوضاع قطاع من الأطباء والعاملين فى الحقل الطبى، وأوضاعهم المادية البائسة، التى دفعت آلافًا مؤلّفة من شباب الأطباء إلي الهجرة، لتخسرهم مصر وشعبها، وهما فى أمسِّ الحاجة لهم، وتستفيد منهم دول وشعوب أخرى، "علي الجاهز" دون تكلفة أو جهد!


ويبقى الإشارة إلي أن هذه المحنة، أبرزت، بقوة، أهمية الثقافة، وعنصر الوعى، والحاجة إلي تنشيط المجال العام، والحركة السياسية فى الواقع، لتأثير ذلك كله على إدراك وتفاعل المجتمع، والتزام المواطنين وتفاعلهم مع ضوابط المواجهة، واستجابتهم للمصالح العليا للوطن.