رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجارة البشر



على الرغم من تلك الأحداث المتسارعة التى تشهدها البلاد حاليًا، خاصة فيما يتعلق بقضية سد النهضة ووفاة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، والتخوف من تسلل فيروس كورونا للبلاد، وحرب الشائعات والفتن التى يستغلها أهل الشر لإثارة التوتر والتشكيك والوقيعة بين أفراد الشعب المصرى، فإننى وجدت أن هناك ظاهرة إجرامية تتعلق بالإنسانية كان من الواجب أن أشير إليها، لعل إلقاء الضوء عليها يساعد الأجهزة الأمنية والمعنية فى التصدى لها لصالح الإنسان.
عندما تم الإعلان عن استحداث قطاع لمكافحة الجريمة المنظمة بوزارة الداخلية كان الهدف منه حماية الإنسان من نفسه وعلى نفسه. فعندما نستعرض تلك الجرائم التى يتصدى لها هذا القطاع، سوف نتأكد من صحة المبرر الذى تم استحداثه من أجلها، وهى جرائم المخدرات بكل أنواعها وكل مراحلها وزراعتها أو صناعتها وتعاطيها وتجارتها وتهريبها، بالإضافة أيضًا إلى تجارة وحيازة الأسلحة غير المرخصة، وجميعنا يعرف حاليًا كم الأسلحة التى تم تهريبها للبلاد، سواء من حدودنا الشرقية أو الغربية أو الجنوبية، وذلك للاتجار بها مع العناصر والتنظيمات الإرهابية المختلفة أو حيازتها لاستخدامها فى أغراض الترويع وأعمال البلطجة، ثم ضم هذا القطاع أيضًا جريمتين أعتبرهما حاليًا هما الأخطر على المستويين العالمى والإنسانى، وهما جريمتا الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية.
عندما يصبح الإنسان ذاته أو جزء منه هو نفسه الهدف الذى من أجله يتم ارتكاب الجرائم، وهنا لا نقصد القتل أو الترويع أو الخطف مثلًا، بل أن تسلب جزءًا من جسده الذى كرمه الله به ليباع إلى شخص آخر يعانى من قصور أو تلف فى هذا الجزء من جسده، مثل الكلى أو جزء من الكبد- وما خفى كان أعظم- مستغلًا فى ذلك حالة الفقر والعوز التى قد يعانى منها ذلك الذى ارتضى أن يُنتزع جزء من جسده، فى الوقت الذى يحرم فيه الشرع والقانون ذلك، كان لا بد لقطاع مكافحة تلك الجريمة أن يتصدى لها بكل حسم وحزم، حيث أمكن خلال الفترة السابقة ضبط العديد من تلك الحالات التى كان الضحايا فيها بعض البسطاء من الشباب الذين تم استقطابهم عبر وسائل التواصل الاجتماعى، فى واحد من أخطر وأسوأ استخدامات تلك الوسائل، بعد استخدامها فى بث الفتن والشائعات والتحريض، وأيضًا التجنيد فى التنظيمات الإرهابية، حيث يتم الإعلان عن قبول متبرعين بجزء من جسدهم، وغالبًا إحدى الكليتين أو أحد فصوص الكبد بمقابل مادى أصبح حاليًا لا يتعدى ثلاثين ألف جنيه.
وعقب قبول الطرف المتبرع تحت ضغوط الحياة، وأحيانًا طمعًا فى الحصول على أى مبالغ مالية، يتم التنسيق مع أحد المستشفيات الخاصة المتخصصة فى هذا النشاط الإجرامى، حيث يتصدى بعض الأطباء الذين خالفوا شرف وميثاق تلك المهنة الإنسانية لإجراء تلك العملية، وزرع هذا الجزء فى جسد شخص آخر قام بسداد مبلغ أكبر بكثير مما تم دفعه لهذا الإنسان البسيط. ونُفاجأ جميعًا بأن هناك شبكة كبيرة تخصصت فى هذا العمل الإجرامى، تضم مجموعة من الأطباء وبعض المتخصصين فى الترويج لهذا العمل على شبكات التواصل الاجتماعى، وآخرين ممن يتواجدون فى بعض المحافظات والقرى يتصيدون شبابها وأحيانًا نساءها ورجالها لإقناعهم بهذا الجرم المشهود، وقد تم مؤخرًا القبض على ثلاثة من القائمين على اصطياد هؤلاء الضحايا، كما تمت أيضًا إحالة ١١ طبيبًا من الأطباء المتخصصين فى إجراء تلك العمليات الإجرامية إلى محكمة الجنايات، لعل قانون البشر ينجح فى توقيع أشد العقوبات عليهم قبل أن يلاقوا ربهم ليعذبهم بما اقترفت أيديهم وضمائرهم التى ماتت.
إذا انتقلنا فى أعقاب متابعة تلك الجهود التى تبذل لمواجهة جريمة الاتجار بأجزاء من الجسد البشرى، فسوف نجد أن هناك جريمة أخرى لا تقل خطورة عنها، وهى الاتجار بالإنسان نفسه واعتباره سلعة يتم الاتفاق على بيعها واستلامها من بلد إلى بلد، باتباع أسوأ أساليب التعامل غير الإنسانية التى تتم فى مقابل تنفيذ تلك الجريمة، وهى جريمة «الهجرة غير الشرعية» التى بدأت ملامحها مع ازدياد موجة الإرهاب والتطرف، المصاحبة أيضًا لزيادة معدلات البطالة والفقر فى العديد من الدول العربية والإفريقية، حيث كان الهروب بأى وسيلة من الملاحقات الأمنية أو من العوز والفقر من خلال أساليب غير شرعية، وباستخدام وثائق وجوازات سفر مزورة، ولكنها كانت فى معظمها تتم بصورة فردية أو جماعية ولكن بشكل غير منتظم، إلى أن ظهرت تلك العصابات والكيانات الإجرامية المنظمة، حيث كانت تشكل عدة مجموعات عمل فى أكثر من دولة. المجموعة الأولى لاستقطاب الراغبين فى الهجرة، والاتفاق المادى معهم. والثانية تتولى تجميعهم فى إحدى المحافظات الحدودية، سواء بريًا أو بحريًا. والثالثة تنقلهم فى جنح الليل وبواسطة مراكب لا يُراعى فيها الحد الأدنى من الوسائل الإنسانية للإعاشة، وتتحرك فى اتجاه دولة معينة أو شاطئ قريب يتم فيه إنزال مَن بقى منهم على قيد الحياة لتتلقفهم مجموعة أخرى من تلك الدولة لتهريبهم داخلها بشكل فردى، حيث تنتهى علاقة الهاربين بهؤلاء المهربين عند هذا الحد.
ومع تزايد هذه الجرائم وتطور وسائلها، قامت الدول التى تعانى من هؤلاء الذين يهاجرون إليها، ويمثلون عبئًا عليها، بدراسة أساليب التعاون مع الدول المصدرة هذا النوع من التجارة «تجارة البشر»، وتم توقيع عدة بروتوكولات تتعلق بتأمين الحدود ومراقبة الموانئ والشواطئ المختلفة، التى تحاول مراكب الموت الوصول إليها بأحدث الوسائل التكنولوجية للمراقبة، وأحيانًا يتم التصدى لتلك المراكب قبل دخولها المياه الإقليمية لهذه الدول وتجبرها على العودة، وهنا تكون الطامة الكبرى حيث يكون الوقود والمؤن ومياه الشرب قد نفدت، ويتعرض الجميع للفقدان أو الغرق والموت، وهنا لا يستطيع أى من أهليتهم العودة لحكوماتهم للمطالبة بالبحث عنهم، أو تعويضهم. لأنهم استخدموا أساليب غير مشروعة، وبالتالى ليس لهم الحق سواء فى البحث عنهم وإنقاذهم أو تعويضهم، لقد أصبحت تجارة البشر للأسف الشديد كأى تجارة أخرى، إلا أن خسائرها أفدح بكثير من بوار البضائع أو تلفها، لأن خسارتها هى خسارة الروح التى خلقها الله سبحانه وتعالى فأحسن صورها.
وها نحن اليوم نرى أن هذه التجارة أصبحت أيضًا إحدى الوسائل السياسية التى تمارس على بعض الدول للإذعان لشروط دول أخرى، وهو ما يقوم به حاليًا الرئيس التركى أردوغان، الذى سمح لأعداد كبيرة من السوريين الذين كانوا موجودين فى المعسكرات الحدودية بين تركيا وسوريا بالخروج من تلك المعسكرات، والتوجه إلى اليونان كوسيلة ضغط وابتزاز للحصول على موافقة ودعم هذه الدولة، ومعها دول السوق الأوروبية المشتركة، للتدخل التركى فى الشأنين الليبى والسورى.
إنها تجارة خاسرة جائرة تقع مسئولية مواجهتها على جميع أجهزة الدولة، من حيث الاستخدام الأمثل لوسائل الإعلام للتوجيه والإرشاد، والأجهزة الأخرى التى يجب أن تساعد هؤلاء الشباب فى العثور على فرص عمل، والأمن الذى يقوم بواجبه على الوجه الأمثل حتى الآن فى هذا المجال.
ورسالتى لأبنائى الباحثين عن الوهم الضائع، أقول: أوطانكم أولى بكم، وفى حاجة إليكم، لا تنساقوا وراء دعاوى شبكات التواصل الاجتماعى التى تسهل لكم الوقوع فى براثن تجار الحياة، قليل من العمل والجهد سوف يكون له مردود كبير لكم ولوطنكم وحياتكم وكرامتكم، وأيضًا مستقبلكم ومستقبل أوطانكم.
وتحيا مصر..