رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفريضة الغائبة


يسجل المصريون فى كل أصقاع الأرض نجاحات باهرة، يقف لها العالم مشدوها، مقدراً هذه القامات العبقرية التى أتت من جنبات النهر فى مصر، حيث الطين الأسود ومحاريب العلم والثقافة، ومهد الحضارة التليدة، ليتساءل نفس العالم: هل يمكن أن تكون هذه العبقريات من نبت هذه الأرض؟.. وإن كان الأمر كذلك، فلماذا تعانى هذه الأرض ويلات أمرها وترهل مجتمعها، ووقوع أفراده فريسة للجهل والفقر والمرض؟.. من أين يأتى هذا الفُصام لشعب ينجح أبناؤه إذا ما ابتعدوا عن أرضه، ويفشلون إذا ما بقوا فيها، إلا من رحم الله؟.

غير خافٍ علينا، هذه المقدرة الفذة للمصرى فى غربته عن الوطن، تشهد بها كثير من المجتمعات التى عملوا فيها بعقل وعلم، وتفانٍ وإخلاص، وجد واجتهاد، ولنا فى مجدى يعقوب وأحمد زويل ومصطفى السيد، أسوة حسنة، مع طابور طويل من العلماء والأدباء والفنانين والمثقفين، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بإبداعاتهم وعلمهم، وتميزهم فى تخصصاتهم.. هؤلاء الذين قدروا العمل وعملوا بالعلم، وكانوا تروساً ضخمة فى آلة الإنجاز خارج أوطانهم.. فهل هم طينة من غير طينة المصريين؟.. أم أنهم غرس خاص فى فضاءات خاصة، لم تكن لها علاقة بفضاء المصريين بعامة؟.

الفريضة الغائبة هنا، ومكمن السر، ركنان أساسيان.. أولهما ما يعرف بـ «النظام» أو المنظومة التى تحتوى العمل وترتب أولوياته وطرائق إنجازه، وموضع كل إنسان فيه، حتى تحقق الكمال والاكتمال دونما عوج أو شطط، وثانيهما «الإدارة بالأهداف»، وكلاهما وجهان لعملة واحدة، هى صناعة النجاح على مستوى الفرد والمجموع، وبالتالى تقدم الدولة وازدهارها.

الإنسان المصرى فى بلاده أو بلاد الغربة هو نفس الإنسان، بشحمه ولحمه وعقله، لكن المتغير الأساس هنا هو بيئة العمل التى ينتقل إليها، بعنصريها، «النظام» و»الإدارة بالأهداف».. فالنظام فى مصر مفقود، تسير الدنيا فيها على غير هدى، ليس هناك من آليات محددة للعمل، ولا أهداف واضحة، ولا أدوات لقياس مدى النجاح أو الإخفاق.. ذلك فى القطاع الحكومي، لأن للقطاع الخاص معاييره التى تقوم على حرص صاحب العمل على مشروعه، ومدى تحقيقه أهدافه، يختار الرجل الصحيح فى المكان الصحيح، وليس له من ميزة معنوية أو أجر دون عمل، ثم هو ــ قبل كل ذلك ــ يحدد طرائق عمله وأساليبه، تمشياً مع ما يصبو إليه، عكس القطاع الحكومي، المال السايب دون حسيب أو رقيب، وعلى الجميع أن يتقاضوا رواتبهم آخر كل شهر، أنتجوا أم لا، كسبوا أم خسروا، ذاك أمر لا يعنيهم!.

و»إذا كان رب البيت بالدف ضاربًا، فشيمة أهل البيت الرقص»، ذلك أننا لم نعتد فى اختيارنا قيادات أى كيان، مراعاة أهلية المُختار للمكان، بل إننا قد اعتدنا، وفى القطاع الحكومى بالذات، تقديم من نعرفه دون الكفاءة المطلوبة للإدارة على ما سواه، حتى ولو كان صاحب علم وملاءة.. نختار أهل الثقة، وقد غاب عنا الحساب، وغالباً ما تكون المجاملة سيدة الموقف، مع أن المُجامل لا يدفع فاتورتها، إنما يدفعها الكيان ومن فيه، خصماً من نجاحاته وصولاً إلى إخفاقاته، وأحياناً سقوطه المريع.. ولعلنا نشهد كثيراً من الكيانات التى أصبحت على شفا الهاوية، وليس لها من نجاة إلا من الله، ثم إعادة صياغة عقول صناع القرار لكى يختاروا من هو أهل لكل مكانة.

بين ظهرانينا أمثلة عديدة.. وما انطلق قطار الخصخصة إلا من فشل إدارات الشركات التى عُرضت فى مزادها، تلك التى امتلأت بأصحاب الحظوة وأقطاب المحسوبية.. والآن مازالت هناك مؤسسات تترنح، وقد أصبحت آيلة للسقوط إذا لم نسارع بإسعافها بقيادات واعية عالمة بمشكلاتها، قادرة على حلها، وإلا ننتظر موتها، وما ذلك ببعيد.. هى مسألة وقت، الكاسب فيه هو من يأخذ بزمام المبادأة.

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.